أبرز الأخبار

ترشيح رفيق الحريري.. موعدان “سريّان” لخدام والشهابي لمطالبة الهراوي بترشيحه

ذهبت إلى منزل الرئيس إلياس الهراوي لأشكره على صبره خلال حوار طويل أجريته معه لسلسلة «يتذكر» بعد انتهاء إقامته في قصر الرئاسة اللبنانية، وهي دامت تسع سنوات. كان الموعد ظهراً ومزاج الرئيس الأسبق رائقاً. سألني ماذا أشرب، فأجبت: فنجان قهوة أو شاي. ابتسم وقال: «في هذا التوقيت لا نقدّم لضيوفنا هذا النوع من المشروبات». استنتجت أن الهراوي يريد استغلال غياب آلة التسجيل ليقول كلاماً أكثر صراحة، فشاركته مشروبه المفضّل.

قال: «سألتني مرات عدة عن رفيق الحريري. أنت تعرف بالتأكيد كم أقدّره وأحبّه. وهو قامة كبيرة واستثنائية لأسباب كثيرة، وإن تخللت العلاقة معه محطات صعبة. حين استقالت حكومة صديقي الرئيس عمر كرامي تحت وطأة الاحتجاجات، شعرنا نحن بالقلق وانتاب القيادة السورية الشعور نفسه. كان من غير المعقول العودة إلى الدكتور سليم الحص، وهو رجل نزيه، لكنه لا يثير أملاً ولا يوحي بأي تغيير. كان المطلوب رجلاً يعيد ثقة اللبنانيين بقدرتهم على الخروج من الأزمة، ويعيد ثقة العالم بلبنان. اقتنعت دمشق أن الرجل الوحيد القادر هو الحريري». وأضاف: «لم يتوقع أحد في بيروت ودمشق أن يتحوّل الحريري قطباً سياسياً وزعيماً شبه أوحد في طائفته، مع قدرة على التمدد داخل الطوائف الأخرى، والتمدد في دوائر القرار في دمشق نفسها. وهكذا دخلنا في معادلة صعبة. لا خيار غير الحريري، وفي الوقت نفسه هناك رغبة لدى فريق في دمشق في ضبط الحريري أو تحجيمه. والحقيقة أن الحريري قدّم لسوريا خدمات كبرى على الصعيدين العربي والدولي، لكن شبكة علاقاته الهائلة عربياً ودولياً كانت في الوقت نفسه مصدر قلق». وقال: «كانت دمشق قلقة من طروحات السلام في تلك المرحلة. وكانت تثق بفارس بويز الذي أُعجب به الأسد يوم أوفدته إليه مبعوثاً رئاسياً للبحث معه في معالجة تمرد العماد ميشال عون. ظهرت حساسية بين الحريري وبويز الذي كان قويّ الشخصية ويعرف ملفاته، والذي أدى عملاً ناجحاً في المواضيع الإقليمية، وكان يرفض أن تكون للسفراء اللبنانيين مرجعية خارج وزارة الخارجية». ولا ينسى الهراوي أن رئيس مجلس النواب حسين الحسيني حاول عبثاً في لقائه مع الرئيس حافظ الأسد بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض، إبعاده عن الرئاسة واقترح اسمين آخرين، لكن الأسد كان حاسماً وقال له: «اذهب واجمع النواب وانتخبوا إلياس الهراوي». عدّ الهراوي في تلك الجلسة أن بناء عهد رئاسي على قاعدة العداء للحريري كان خطأ، في إشارة منه إلى الإتيان بالرئيس إميل لحود. قال إنه لا يمكن إدارة لبنان على يد «من لا يعرف بالسياسة، علاوة على خبرته العسكرية المحدودة». وأعرب عن أسفه لأن الدكتور سمير جعجع رفض نصيحته بمغادرة لبنان يوم «تجمعت غيوم توحي بالتوجه نحو إدخاله السجن».

كنت أقلّب أحداث تلك الحقبة حين لفتني أن الوزير بويز، صهر الهراوي سابقاً، لم يتحدث عن تجربته الطويلة، علماً أنه تولّى حقيبة الخارجية على مدى ثمانية أعوام شهدت محطات صعبة لبنانياً وإقليمياً. قصدت بويز وفتحت معه دفاتر الماضي الذي كان فيه شريكاً وشاهداً. استوقفتني في روايته نقاط كثيرة، بينها قوله إن الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان رجل الحريري في باريس، ونائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام كان رجل الحريري في دمشق. لفتني تأكيده أن دمشق وافقت على تولي الحريري رئاسة الوزراء، لكنها انقسمت حوله منذ البداية. كما استوقفني قوله إن الهراوي لم يكن مرشح الحريري لرئاسة الجمهورية. تحدث بويز أيضاً عن العلاقة مع الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي اشترط للمشاركة في إزاحة عون تفويضاً غربياً واضحاً وتحجيم سمير جعجع كي لا يخرج مستفيداً من غياب عون.

«مصيبة اسمها إميل لحود»
سألت بويز عن قصة رفيق الحريري وخلافه الطويل معه قبل أن تجمعهما لاحقاً «مصيبة اسمها إميل لحود»، وسأتركه يروي:

في الحقيقة، منذ اتفاق الطائف واسم رفيق الحريري يلوح في الأفق. في أول حكومة بعد سقوط العماد ميشال عون، التي هي حكومة عمر كرامي، طُرح اسم رفيق الحريري، ولكن في هذا الوقت كانت الظروف بعيدة عنه؛ لأن الحكومة ستتولى حل الميليشيات والبدء بترتيب مؤسسات الدولة، وعلى أساس أن معركة الإنماء والإعمار ستأتي لاحقاً. في الحقيقة، تأجل موضوع مجيء رفيق الحريري، وأنا أعتقد أنه كان هناك تحفّظ سوري، ليس من كل سوريا، بل من قسم منها، وصيغ التحفظ بعبارة أن الوقت مبكر لمجيئه. وهكذا جاءت حكومة الرئيس عمر كرامي. سقطت هذه الحكومة لاحقاً تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، فلاحَ في الأفق مجدداً اسم رفيق الحريري. لم تتبلور آنذاك لا في الداخل ولا في الخارج ولا في سوريا بشكل خاص، أكثرية حاسمة وواضحة تحبّذ هذا الأمر. كان الأمر معقداً، ثم فهمنا أن مجيء رفيق الحريري لا يمكن أن يأتي إلا في ظروف معينة وبعد حصول انتخابات نيابية؛ بمعنى أن يكون هناك مجلس نيابي قد انتُخب، وأن الحريري لن يتمكن من الإتيان بمجلس نيابي موالٍ له. يجب على المجلس النيابي أن يكون هو الموازي أو الموازن لمجيء رفيق الحريري.

اكتشفنا لاحقاً أنه كان من غير الوارد أن يأتي رفيق الحريري قبل انتخابات تأتي بمجلس نيابي موثوق سورياً. وبالفعل هذا ما حصل. توجهنا نحو حكومة رشيد الصلح، لهذا السبب. مثلاً، أنا كنت معارضاً لحصول انتخابات طبقاً لهذا القانون ولهذه الظروف. وكلما طرحت في مجلس الوزراء موضوع تأجيل الانتخابات وتعديل شروطها، كنت أصطدم بحائط رفض كلي، ولا أفهم لماذا لا أحد يريد فعلاً البحث في أي تعديل في قانون الانتخابات أو التواريخ أو في أدنى التفاصيل، حتى ذهبنا إلى دمشق وفهمنا القصة. قال الرئيس الهراوي لي إنه بمعارضتك للانتخابات فأنت تعكّر علاقاتي بسوريا التي ستعتقد أنني أنا الذي أدفعك بهذا الاتجاه. تفضّلوا، أنتم الموارنة، إذا كنتم لا تريدون هذه الانتخابات فاذهبوا وتحدثوا مع السوريين. واقترح عليّ أن أذهب مع مجموعة، من ضمنها جورج سعادة، رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» حينذاك، ونسيب لحود، وبطرس حرب، وبيار حلو، وفؤاد السعد، وأنا. وربما هناك شخص سابع. وبالفعل، مجموعة من النواب أو الرموز المارونية. ذهبنا إلى دمشق ولا حول ولا قوة… لم نتمكن من إقناع عبد الحليم خدام، والأمر نفسه مع حكمت الشهابي. لم نتمكن، إلى درجة أنني شخصياً اصطدمت معهم، وقلت لعبد الحليم خدام: أنا لا يمكنني أن أكون نائباً بـ200 أو 300 صوت. هذه الانتخابات لن تسمح لنا بأن نُنتخب بشكل مشرّف، ومن هنا فأنا سأقاطع هذه الانتخابات ولن أترشح وسأستقيل من وزارة الخارجية. وبالفعل عندما شعر عبد الحليم خدام أنه غير قادر على إقناعي بهذا الأمر، ذهب إلى الهاتف واستدعى حكمت الشهابي الذي من الصعب التفاوض معه. شخصية حكمت الشهابي شخصية غير مرنة. قلت له الشيء نفسه، فأجابني: «يا معالي الوزير، أنت من الثوابت الإقليمية التي برعت خلال السنتين (الماضيتين)، ولا يجوز أن تلغي مستقبلك السياسي». كان شبه تهديد. فقلت له: «أنا لا أتصوّر مستقبلي السياسي بعيداً عن شعبي وعن رأي شعبي… ». وعدنا من هناك. كان الرئيس الهراوي طلب مني ألا أكون رأس الحربة كي لا أورّطه، في حين أن الزملاء الذين كانوا معي لم يدخلوا في هذا الموضوع. تركوني وحدي، لا بل إن أحدهم تنكّر لما قلته من أنني سأستقيل من الحكومة وسأمتنع عن خوض الانتخابات، وقال هذا رأي معالي الوزير ونحن لا نتفق على ذلك. في جميع الأحوال، عدنا من هناك، فاكتشفت حينها أن هناك سبباً عند السوريين بأن تتم العملية الانتخابية فوراً، وهذا السبب لا علاقة له بصحة الانتخابات أو بغيرها، بل إن هناك أمراً آخر. من ثم، أدركنا أنهم كانوا يتوقعون مجيء الحريري، وكانوا يريدون أن يُنتخب مجلس نيابي قبل مجيء الحريري كي يكون هناك ضوابط لعمله.

كان الرئيس الهراوي يريد رفيق الحريري. أولاً، انطلاقاً من المبدأ بأن الرئيس كان يدرك أن المشكلة الاقتصادية بدأت تُرخي بظلالها على كل الاعتبارات، وأنه ليس لديه أي شخصية سنيّة تستطيع معالجة هذه المشاكل الاقتصادية غير رفيق الحريري. كان يعد أن الرئيس سليم الحص، ولو كان نزيهاً، فإنه سلبي في بعض الأحيان أو بطيء، وغير مقدام على مستوى النهضة الاقتصادية. ولم يكن يراهن على رشيد الصلح. وكان يعد أن عمر كرامي احترق سياسياً. من هنا، الرئيس الهراوي هو من كان يرغب برفيق الحريري. وعندما شعر بأن هناك تحفظات سورية ذهب مباشرة والتقى الرئيس حافظ الأسد وطالب بالحريري، فاستمهله الرئيس الأسد.

بعد يومين، قال لي الهراوي شيئاً غريباً، وهو أن عبد الحليم خدام طلب أن يزوره سراً. قلت له: ما هذا الخبر؟ إن أتى من الحدود فالمخابرات السورية ستعلم بذلك، وإن أتى من مطار بيروت فالمخابرات السورية ستعلم بذلك… كيف سيأتي سراً؟ ولماذا يأتي سراً؟ هل هو يتآمر ضد نظامه؟ في جميع الأحوال لم نفهم لماذا سراً، وأتى عبد الحليم خدام. في اليوم التالي قال لي الهراوي: احزر، لماذا أتى خدام؟ قال إنه جاء ليطالبني بالإلحاح على الرئيس الأسد للمجيء بالحريري. فقلت له: وأنتم ماذا تفعلون؟ قال لي: نحن لا نستطيع الذهاب بعيداً في هذا الطرح.

إذاً، بدأت مؤشرات. بعد يومين قال لي الرئيس الهراوي إن العماد حكمت الشهابي، رئيس الأركان، طلب منه موعداً سرياً. هذا أمر غريب. عبد الحليم خدام، أولاً لم يكن يخفي تعاطيه بالملف اللبناني، وحتى في الإعلام. ثانياً، عبد الحليم خدام كان يأتي إلى لبنان من حين إلى آخر. أما حكمت الشهابي، فهذا الأمر غريب. حكمت الشهابي لم يكن يتعاطى إلا في ملف واحد وهو الجيش. رعاية الجيش اللبناني، أو إعادة بناء الجيش اللبناني، ولم يكن يزور لبنان. ومعروف عنه أنه الناطق الدقيق باسم الرئيس الأسد. كيف ولماذا يطلب موعداً خاصاً؟ في جميع الأحوال، هذا الموعد السري أيضاً، لا ضمانة لسريته. أيضاً إن جاء من الحدود أو من المطار، كيف سيأتي؟

أتى، وبعد يوم قال الهراوي: ما عدت أفهم شيئاً! قلت له: ماذا يحصل؟ قال لي: أتاني حكمت الشهابي ليطالبني بالإصرار على مجيء رفيق الحريري. كان هذا أمراً غريباً؛ لأنه ليس أسلوب حكمت الشهابي، لم يكن يتدخل بهذه الأمور. وقال لي: يبدو أن هناك مشكلة. يبدو أن في سوريا فريقين: فريق لا يريد رفيق الحريري ويخشاه، وفريق يريده. واضح أن عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، هما من الفريق الذي يريده. وواضح أيضاً أن هناك فريقاً آخر لا نعلم من هو لا يريده على الإطلاق. أنا أعتقد أنك لا تستطيع إلا أن تحتكم إلى حافظ الأسد.

هذه كانت أول إشارة إلى الصراع الدائم الحاصل في سوريا. كان ذلك أول المؤشرات. بعدها أتى مؤشر آخر، وهو عندما أصبح رفيق الحريري رئيساً للحكومة وذهبنا في عام 1993 إلى قمة الدول الإسلامية المنعقدة في طهران. كنت خارجاً من القاعة فالتقيت قائد الحرس الجمهوري في سوريا اللواء عدنان مخلوف الذي بادرني بصوت عالٍ وبكلام من نوع: أنت الجريء وأنت… ولم أكن أدري لماذا كل هذا الترحيب، ثم اصطحبني ومعه عدد من كبار الضباط في ممشى قصر المؤتمرات، وأخذ يشتم بوضوح بعض المسؤولين السوريين الكبار، منهم عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان، ويقول لي إن هذا (الحريري) يشتري النظام في سوريا.

كان يقصد الحريري من دون أن يسميه. واضح جداً من يشتري النظام، وواضح جداً لماذا يشتم الآخرين باتهامهم بأنهم يرتشون. لا بد للسياسي من التقاط الإشارات. كيف يجرؤ ضابط على اتهام رئيس الأركان بأنه مرتشٍ إن لم يكن هناك مناخ من هذا النوع في أرفع مواقع القرار؟ عددت الكلام الإشارة الدامغة القاطعة. وعندما عُدت مساء إلى بيروت مع الهراوي، والرئيس الهراوي عادة ينام باكراً، تبعته وقلت له إنني محتاج إلى نصف ساعة، فقال لي: للتو عدنا من السفر وأنا تعب. فقلت له: أنا أحتاج إلى بضع دقائق. قلت له: هذا ما حصل معي في طهران، وهذا يعني بوضوح أن هناك انشقاقاً كبيراً جداً في القيادة السورية، وأنه من الآن فصاعداً عليك أن تستمع إلى حافظ الأسد دون سواه، فأنا أتمنى عليك ألا تتصل لا بغازي كنعان المتهم من قبلهم، ولا بحكمت الشهابي، ولا بعبد الحليم خدام. وبالحقيقة، ترسّخت لدينا قناعة بأن صراعاً كبيراً بدأ في سوريا، حول رفيق الحريري بالذات.

رئاسة إميل لحود
سألت بويز عن قصة العماد إميل لحود الذي استهل الهراوي عهده بتعيينه قائداً للجيش ودعمته سوريا فتولى الرئاسة تسعة أعوام، وسأتركه يتذكر:

فور انتخابه في «بارك أوتيل» في (بلدة) شتورة، وبعد تقبّل التهاني وتأليف الحكومة الذي استغرق حتى الثالثة فجراً؛ لأن الرئيس الحص كانت لديه «فيتوات» واعتراضات على البعض. كان لديه «فيتو» على سامي الخطيب، و«فيتو» على ميشال المر، وغيرهما. تحدث الهراوي معي عن ضرورة تعيين قائد للجيش فوراً من قبل الحكومة، وقال لي: ما رأيك بالعميد إميل لحود؟ قلت له: العميد إميل لحود هو ضابط بحري في بلد لا توجد لديه قوة بحرية. وثانياً ليس على علمي أن العميد لحود خاض معارك فعلية. وثالثاً إنني أخشى أن يكون من الصعب أن تواجه ميشال عون بإميل لحود؛ ميشال عون الذي عاش مع عسكره وخاض معارك على الأرض طوال حياته، تواجهه بضابط مجرد أنه تخرج في المدرسة الحربية. ضابط تخرج من بريطانيا، أنيق ورياضي… لماذا تسألني يا فخامة الرئيس؟ قال لي: يبدو أن الرئيس رينيه معوض كان قد وعده، ويبدو أن السوريين قد وعدوه، وهو الوحيد الذي التحق معنا وترك العماد عون، على الأقل تجرّأ أن يأتي إلى المنطقة الغربية (من بيروت). قلت له: إذا كان لا خيار لك، فلماذا تسألني؟ الموضوع محسوم، لكن أنا لا أعتقد أن إميل لحود هو الذي سيستطيع مواجهة عون، خاصة عسكرياً، إذا لزم الأمر.

أيّدت سوريا التمديد للرئيس الهراوي، وكانت تعد أن الاستمرارية أمر ضروري، خاصة في ضوء تجارب السياسة الخارجية بعد المشاركة في مؤتمر مدريد والتعاطي مع الاستحقاقات الدولية. من هنا، كانت مع التمديد لرئيس الجمهورية، وطرحت التمديد أيضاً لقائد الجيش. نعم إميل لحود، في الحقيقة، أراح سوريا؛ لأنه غير مسيّس ولا يتعاطى فعلياً بالموضوع السياسي، وهو تعاطى مع دمشق يومياً عبر العقيد جميل السيّد نائب مدير المخابرات حينذاك. كان يسمع لرأيهم بشكل تفصيلي. ومن هنا، أعتقد أنهم كانوا يثقون به، ويعدون أن موضوع الأمن يجب أن يكون مضبوطاً.

عرف إميل لحود باكراً بوجود فريق في سوريا يتخذ موقفاً سلبياً من رفيق الحريري، وبنى سياسته على هذا الأساس وراهن على هذا الفريق. لم تكن بينه وبين الحريري أي مشكلة شخصية. لم يكن العماد إميل لحود يتعاطى بالموضوع السياسي. كان في الحقيقة بعيداً كل البعد عن الموضوع السياسي وله اهتمامات أخرى. لم يكن هناك سبب لاختلافه مع رفيق الحريري إلا إذا كان هناك فريق في سوريا لا يرغب برفيق الحريري، وهو قد أوحى لإميل لحود بذلك، منذ البداية.

جاك شيراك والحريري
كان لا بد من سؤال بويز عن انخراط الرئيس جاك شيراك في التفاصيل اللبنانية دعماً لصديقه الحريري، وها هو يوضح:

طبعاً الرئيس جاك شيراك كان صديقاً كبيراً للحريري. ومن هنا، عندما اقترب موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية إلياس الهراوي الممدة، استشعر شيراك، أو ربما بناء على طلب الحريري، بأن عليه أن يتحرك؛ لأن أسهم إميل لحود كانت قوية وسيأتي رئيساً للجمهورية. وهذا لا يناسبه؛ لأنه صديق رفيق الحريري، وكان عداء لحود للحريري واضحاً. فعندما أتى إلى لبنان، وكنا على مقربة من انتهاء ولاية الرئيس إلياس الهراوي، وكنت أزوره بروتوكولياً في مقر السفارة في بيروت، استبقاني. كان مفترضاً أن يكون اللقاء لقاءً بروتوكولياً عادياً، وإذ استبقاني، بعدما كنا على عتبة الذهاب إلى العشاء الرسمي في قصر بعبدا. قال لي: أريد أن أتكلم إليك، ولماذا لا تذهب معي في السيارة، فنتكلم على طريق القصر الجمهوري؟ وبالفعل، وضع يده على ركبتي، وقالي لي حرفياً بالفرنسية: يا معالي الوزير، أنت أمل للبنان، ورفيق الحريري أيضاً أمل كبير للبنان، إن لم تتفقا فسيأتيكم عسكري وسيقضي عليكما. ابتسمت وقلت له: يا سيادة الرئيس، أولاً أنا أريد أن أطمئنك بأن لا خلاف بيني وبين الرئيس رفيق الحريري. لا خلاف شخصياً على الإطلاق، ولكن الرئيس الحريري منذ البداية يريد الهيمنة، وأنا شخصيتي لا تتحمل هذه الهيمنة، خصوصاً حين تكون مخالفة للدستور والقانون والأعراف والتوازنات. أنا لا مشكلة عندي مع رفيق الحريري، قد أكون أنا، من الوحيدين الذين لم يستفيدوا منه، ولا مصلحة لهم مع رفيق الحريري أو ضد رفيق الحريري، ولكن أنا أخشى من أن يكون قرار مجيء إميل لحود، قائداً للجيش، قد أصبح جاهزاً. فلذلك، أنا لست ضد ترتيب العلاقة مع رفيق الحريري، لكن دون أن أعتقد أن ترتيب هذه العلاقة قد يكون له انعكاس على موضوع رئاسة الجمهورية. فقال لي: لا لا، لا شيء قد تقرر بعد، وأنا أريد منك هذه الليلة، بعد العشاء الرسمي في قصر بعبدا، أن نجتمع نحن الثلاثة، أنا وأنت ورفيق الحريري، ونطوي صفحة هذا الخلاف. قلت له: فليكن. وبالفعل، بعد انتهاء العشاء الرسمي، يأخذني الرئيس شيراك ويسألني أين توجد غرفة نستطيع أن نجتمع فيها.

جلسنا في قصر بعبدا. طبعاً هذا ما شغل بال الرئيس الهراوي الذي لم يكن يحب أن تحصل أمور لا علم له فيها. بالحقيقة، ذهبنا أنا والرئيس شيراك والرئيس رفيق الحريري، واجتمعنا، وقال لي الرئيس شيراك: ما هو المشكل؟ قلت له: يا سيادة الرئيس، أول مشكل أنني رجل ثقافتي جمهورية، في حين أن الرئيس الحريري ثقافته مختلفة. الموضوع الثاني، هو أن ثقافتي قانونية، أنا رجل قانون، في حين أن الرئيس الحريري رجل أعمال، وأحياناً رجال الأعمال يتخطون الأصول أو الشكليات القانونية وغيرها بغية إتمام أعمالهم بسرعة. وثالثاً، أنا بالنسبة إليّ هناك الدستور والقانون والقرار الإداري، وبالنسبة إلى الرئيس الحريري هناك قراره فقط. أخيراً يا سيادة الرئيس، نحن في نظام طوائفي في لبنان، مبنيّ على توازنات دقيقة للغاية، فكل طائفة تأخذ حجماً من الأخرى تشكل خللاً في التركيبة اللبنانية، وأنا ممثل لطائفتي في هذا المناخ السياسي. فأنا، إن سمحت للرئيس الحريري أن يتعدى على صلاحياتي وعلى وزني وعلى حجمي، أكون قد أخلّيت بهذا التوازن المطلوب، وأكون قد أخلّيت بتمثيلي لطائفتي. فمن هنا، الرئيس الحريري لم يعش طويلاً في لبنان ليدرك فعلاً ما هي التوازنات الدقيقة، ولا يدرك فعلاً مناطق لبنان وطوائف لبنان ومذاهب لبنان وأحزاب لبنان وقوى لبنان وعائلات لبنان، ولا يتعاطى معها حسب توازنات معينة. فمن هنا، أنا أمامي خياران: إما أن أرضخ وأُتهم بالتخاذل، وإما أن أحارب رفيق الحريري. وهذا ما يدفعني إليه. فإن كان الرئيس رفيق الحريري مدركاً لهذا الواقع، فأنا أعتقد أن تغيير السلوك يغيّر كل هذه المعطيات ونصلح الأمور. أما فيما يتعلق بالشق الثاني، فيقول لي الرئيس شيراك: وأنتم على مقربة من انتخابات رئاسة الجمهورية، وأنا أعتقد أنكما إذا تفاهمتما، فإن تحالفك مع الرئيس الحريري سيشكل ورقة أساسية، أو ورقة ضغط أساسية، أو ورقة قوة في هذه اللعبة. قلت له: أنا لا أعتقد ذلك، وأعتقد أن قرار المجيء بإميل لحود قد اتُّخذ. وإذ أصرّ هو أن يقول لا. وأنا بمعزل عن هذا الاعتبار، جاهز للبحث مع الرئيس الحريري حول أي تفاهم، أو أي مصالحة إذا جاز التعبير. قال الرئيس الحريري إنه لا يهيمن ولا يحاول أن يهيمن، وإنه يحترم كل التوازنات… إلخ. في الحقيقة انتهت الجلسة ليتبين بعد مدة أنني كنت على حق، وكانت قضية العماد إميل لحود قد حُسمت.

خلال تسع سنوات في وزارة الخارجية، لم تكن علاقتي في سوريا إلا مع شخص الرئيس حافظ الأسد، وشخص وزير خارجيته فاروق الشرع. وإذ أفاجأ، وكنا على بعد بضعة أيام من انتهاء ولاية الرئيس الهراوي، باتصال هاتفي من عبد الحليم خدام الذي لم أكن على علاقة معه خارج إطار الاجتماعات الرسمية؛ أي القمم في دمشق. كلمني ودعاني إلى مأدبة غداء سيقيمها في منزله في بلودان. استغربت. خلال تسع سنوات لم يحصل اتصال، والآن يدعوني ولم يقل لي ما هو الهدف. ذهبت إلى هذا الغداء، وإذ أفاجأ بوجود الرئيس رفيق الحريري، وأيضاً يقول عبد الحليم خدام، طبعاً بأسلوبه المباشر، إنه إذا لم تتفقا معاً سيأتيكما من ينتقم منكما. سيأتيكما إميل لحود، وسيدفنكما بعضكما مع بعض. قلت له: لماذا تربط بين الأمرين؟ فقال لي؛ لأن تفاهمكما قد يحول دون مجيئه. قلت له: كيف ذلك؟ قال لي: اتركها علينا؛ أي إنه هو سيتبنى ترشيحي في حال تصالحت مع رفيق الحريري، وإنه قادر على تغيير التوازنات. قلت له: أنا لا مانع عندي إطلاقاً أن أقيم تفاهماً مع الرئيس الحريري، وسبق للرئيس جاك شيراك أن عرض هذا الموضوع، وأنا لا مانع لديّ على الإطلاق بهذا الموضوع وجاهز له، ولكن بشكل مستقل عن موضوع رئاسة الجمهورية. أنا لا أعتقد أن هناك ترابطاً بين الأمرين؛ لأن معلوماتي تفيد بأن موضوع إميل لحود قد حُسم، ومعلوماتي أن سوريا تريد إميل لحود. فقال لي عبد الحليم خدام: هل أنت مطلع على أمور سوريا أكثر مني؟ قلت: ربما أنت تخلط أحياناً الوقائع بالتمنيات أو الرغبات، أما أنا فأحاول في السياسة والحسابات السياسية ألا أخلطهما. أنا معلوماتي أن قرار المجيء بإميل لحود قد اتُّخذ. قال لي: هذا الموضوع اتركه عليّ. طبعاً كان يريد أن يظهر أمام الرئيس الحريري بأنه هو القادر. قلت له: ماشي الحال، لكن لا تسجّل عليّ أنني آخذ هذا الموضوع في الاعتبار. أنا جاهز للتفاهم مع الرئيس رفيق الحريري بمعزل عن هذا الاعتبار. أيضاً قال لي: فلنتكلم. تكلمنا بعض الشيء كي لا نكرر نفس المعطيات التي تكلمنا عنها مع الرئيس شيراك، وفي الحقيقة عدنا إلى بيروت. وأنا مغادر، قال لي عبد الحليم خدام: اتّكل عليّ، فأنا أغيّر المعادلة. قلت له: يا أبا جمال، أنا أعتقد أن هناك معادلة رُكّبت على قياس من سيأتي بعد الرئيس الأسد، وهذه معادلة استراتيجية تقضي بمجيء إميل لحود، ليس ربما للصفات التي يتمتع بها، بقدر ما للعلل التي يشكو منها. أنا أعتقد أنهم يريدون شخصاً ليس ضليعاً بالسياسة كي يقولوا له ماذا يجب أن يفعل. أنا أعتقد أنهم يريدون شخصاً لا خبرة سياسية له كي يتمكنوا من برمجته… إلخ. وأنا أعتقد أنهم يريدون شخصاً يستطيع أن يتفاهم مع من سيخلف الرئيس الأسد. وأنا أعتقد أنهم يريدون شخصاً عسكرياً، فباعتقادهم أن العسكر معتادون على تلقّي تعليمات وأوامر واضحة ولا يناقشون، في حين يناقش السياسيون أحياناً؛ لذلك أنا أعتقد أن الأمر مبتوت. على كل حال. وبالفعل. أنا كنت على علم بأن الأمر متجه نحو هذا الاتجاه؛ لأنه في مرحلة سابقة، قام الرئيس الأسد ببحث هذا الأمر مع الرئيس الهراوي، وقال له: ماذا ستفعلون يا فخامة الرئيس وقد اقتربت الانتخابات الرئاسية؟ والله يا فخامة الرئيس، يجب أن تكون في لبنان استمرارية معينة، وأنا أعتقد أن الوزير فارس بويز رجل قدير وأثبت قدرته. الرئيس الهراوي، لم يتجرأ على تأييد هذه النظرية خوفاً من أن تكون هناك حسابات معينة. كان دائماً يخشى الفِخاخ، ومن جهة ثانية لا يريد أن يتحمّل هذه المسؤولية، ولا يريد أن يُسجّل عليه أنه طلب شيئاً. فلكل هذه الأسباب، الرئيس الهراوي لم يقل شيئاً.

عاد الرئيس الهراوي إلى بيروت وبدأ يتكلم بأن الرئيس الأسد يبدو أنه يرغب بالوزير بويز. هنا، شاع هذا الخبر في أوساط معينة. ومن هنا، ذهب البعض في لبنان، من المخابرات اللبنانية تحديداً، إلى دمشق. وطبعاً، هؤلاء لا يستطيعون الوصول إلى الرئيس حافظ الأسد، ولا يتجرأون في جميع الأحوال أن يقولوا إن خيار الرئيس الأسد هو خيار خاطئ. ذهبوا إلى زملائهم في المخابرات السورية، وبدأوا يثيرون هذه النظرية بلباقة بالقول إن فارس بويز ممتاز، وفارس بويز رجل وطني، ولكن إذا كان الرئيس الأسد باقياً؛ فقد يكون خيار فارس بويز ممتازاً، أما إذا كان سيأتي شخص آخر غير الرئيس الأسد؛ فقد يصبح فارس بويز أكثر خبرة وأكثر معرفة بالأمور، وفارس بويز شخص لا نستطيع أن نتكلم معه؛ أي إنه لا يتلقى تعليمات من أحد. من هنا، سُوّقت هذه النظرية عند الرئيس حافظ الأسد، بأنه يا سيادة الرئيس: إذا أنت باقٍ، طبعاً أنت تقدر أن تتفاهم مع فارس بويز، وهو كويّس، لكن إذا أنت لست باقياً، ستكون هناك صعوبة بالتفاهم مع فارس بويز، خاصة أنه خلال تسع سنوات لم يسمح لأيٍّ كان بأن يتعاطى معه. فارس بويز صاحب نظرية مستمدة من الكتلة الوطنية، أو ريمون إدة، (نظرية) تقول إنه ليس على العسكر أن يتعاطوا بالسياسة. العسكر في الثكنات والسياسيون في السياسة. هذا ما عدّل رأي حافظ الأسد؛ بمعنى أنه في اللقاء الثاني مع الرئيس الهراوي، قال له: شعرت منك في المرة السابقة أنك فاتر فيما يتعلق بموضوع فارس بويز. ربما أنت على حق، ربما في هذه المرحلة قائد الجيش (هو الشخص المناسب)، المرحلة هي مرحلة أمنية، وربما قائد الجيش قد يكون أفضل في هذه الحال. وعندئذ عاد. وأنا كنت على علم بهذا الأمر. لذلك عندما حدثني جاك شيراك كنت جازماً بأن الأمر أصبح مبتوتاً. وعندما حدثني عبد الحليم خدام أيضاً. كان رأي الأجهزة أن العسكري أفضل؛ لأنه معتاد على تلقّي الأوامر وتنفيذها.

غسان شربل – الشرق الاوسط

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى