أبرز الأخبار

حكاية يخت هتلر في لبنان!

يوم العاشر من شهر تموز (يوليو) سنة 1995، نشرت جريدة “الدايلي ميل” اللندنية سؤالاً لأحد قرائها، يستوضح فيه عن يخت هتلر “غريل”.

وأحالت إدارة الجريدة السؤال الى اللبناني ادوارد عريضة، ليكتب باختصار الجواب التالي: “إن والدي جورج عريضة كان قنصل بريطانيا في طرابلس – لبنان. وهو الذي اشترى يخت هتلر من الاميرالية البحرية في مزاد علني سنة 1946.

وحقيقة الأمر أن أدولف هتلر لم يستعمل هذا اليخت سوى ثلاث مرات بسبب سرعة إصابته بدوار البحر والغثيان المتواصل. وقد استخدمه الاميرال “دونتز” في آخر أيام الحرب، أي قبل أن يشكل حكومة في “فليتزبرغ” على الحدود مع الدنمارك، في محاولة أخيرة لجذب اهتمام دول الحلفاء الى استعداده للتفاوض على شروط إنهاء الحرب. ان شقيقي، المدعو جورج جونيور، أبحر باليخت الى “جنوى” في ايطاليا بهدف تحويل “غريل” الى باخرة تجارية يمكن استثمارها لنقل السياح في البحر الأبيض المتوسط.

 

وقبل أن تبدأ عملية التحول، أتصل الملك فاروق بوالدي، معرباً عن رغبته في شراء اليخت. ولما أبحرنا الى الاسكندرية كان العاهل المصري في مقصورة الاستقبال مع عدد من حاشيته. وبعد أن تجول على ظهر المركب وعاين المقصورات الفارهة، أبدى إعجابه الشديد بهذه العمارة البحرية المتقنة الصنع، ولكنه إقترح على أبي أن يمنحه لقب الباشوية مقابل التنازل عن ملكية اليخت. عندها أدرك والدي أن عرض الشراء لم يكن أكثر من خدعة لإستدراج أبي الى الفخ الذي نصبه له فاروق.

بعد رجوعنا من مرفأ الاسكندرية، قرر والدي إركان اليخت في مرفأ بيروت. وعلى الرغم من الحراسة المشدَّدة، ومن وجود أكثر من مئة بحار وخادم ومهندس على متنه، فقد تعرض لعملية تفجير بواسطة “ضفدع” بشري، أرسلته الاستخبارات الاسرائيلية. ولكن والدي سارع الى إصلاح الفجوة التي أحدثتها القنبلة اللاصقة، وقرر نقله الى مرفأ نيويورك الآمن. ولكن وقوع الحرب الكورية اضطر البحرية الاميركية الى إخلاء كل الموانىء من السفن الغريبة.

 

وبعد إنقضاء فترة طويلة، ومواصلة دفع تأمين الحماية والرسو والصيانة، قرر والدي التخلص من هذا العبء الثقيل، وتحويله الى “خردة” بحيث بيعت أجزاؤه قطعاً من الحديد المكسر.
ولم تحتفظ عائلتنا من تذكارات تلك السفينة بأكثر من بقايا رمزية إقتصرت على الجرس وجهاز لقياس سرعة اليخت.”

ادوارد عريضة – لندن”
و “غريل” بالألمانية معناه: الجندب… جراد صغير يُعرف بالقبّوط.

ولكن حادثة تفجير قعر اليخت الراسي في مرفأ بيروت، أثارت في حينه تساؤلات مريبة حول الجهة الفاعلة، خصوصاً بعدما دسَّت “الوكالة اليهودية” في الصحف الاميركية خبراً مفاده أن إرهابيين من أعداء الملك فاروق هم الذين نفذوا العملية.

كل هذا، لأن إسم يخت هتلر إرتبط بإسم الطامع في إمتلاكه الملك فاروق.

وهكذا بقي إسم الفاعل الحقيقي مجهولاً الى حين أخرجت الاستخبارات الاسرائيلية، سنة 1973، تفاصيل العملية التي كُلـِّف بتنفيذها جاسوس اسرائيلي من أصل سوري يهودي عُرِف بإسم عبدالكريم محمد.

وتحت عنوان “رجلنا في بيروت”، كشفت اسرائيل عن مهمة الجاسوس الذي أرسلته لنسف يخت هتلر الراسي في مرفأ العاصمة اللبنانية. والسبب أنها ترغب في محو كل أثر يدل على عظمة المانيا الصناعية في العهد النازي.

ومن خلال حديث مسهب أجرته صحيفة “تايمز الاسرائيلية” – ربما إحتجبت – إستعرض إسحق سوشان (إسمه الحقيقي) ماضيه الغامض في حلب، والطرق الملتوية التي استخدمها لتحقيق الهدف المطلوب.

قال إنه غادر حيفا بواسطة حافلة كانت مملوءة باللاجئين. وكان يحمل في جيبه كمية من الدولارات، وخريطة تبيّن له أسماء الشوارع في بيروت، وموقع الشقة التي إستأجرها له عميل آخر. ووجد داخل تلك الشقة راديو كبير الحجم، دُسَّ في داخله لاقط هوائي لاسلكي، بغرض تسهيل اتصاله بمركز الإرشاد والتوجيه داخل “تل أبيب”.

وفي الحديث، إعترف إسحق أنه إنتقل مع أهله الى اسرائيل بعد حرب 1948 حيث التحق بـ “كيبوتس” يضم عدداً كبيراً من يهود الدول العربية. وفي ذلك المكان تدرب على استخدام المتفجرات، واستعمال الشيفرة الخاصة بجهاز استخبارات عصابة “بالماخ”.

قبل تنفيذ العملية بشهر تقريباً، إنضم الى إسحق شاب آخر عاش في حلب من عائلة “هابقوق”. وقد تسلم الإثنان برقية لاسلكية تطالبهما بالتوجه قبل منتصف الليل الى منطقة الشاليهات، جنوب العاصمة اللبنانية. وعند الموعد شاهدا زورقاً مطاطياً يقترب من الشاطىء، ثم ترجَّل منه شاب عرَّف عن نفسه بإسم “الياهو رقة”. وقبل أن يجدِّف باتجاه الباخرة التي كانت تنتظره في عرض البحر، سلمهما صندوقاً خشبياً قال إنه يحتوي على المطلوب.

ولم يكن المطلوب سوى متفجرتين ممغنطتين سريعتي الإلتصاق بأي جسم معدني. إضافة الى جهاز تنفس يستخدمه “الرجل الضفدع” أثناء تخفـّيه تحت سطح الماء.

في الموعد المحدد، وعندما كان بحارة “غريل” يغطون في النوم، إستعان إسحق بجهاز التنفس ليسبح تحت سطح الماء، ويلصق المتفجرة الموقوتة في قعر اليخت. ولما اختفى في الظلمة، وراء الجانب الغربي من فندق “السان جورج”، سمع الانفجار الذي أوقظ البحارة ونزلاء أهم فندق في الشرق الأوسط.

في ساعة متأخرة من الليل تبلَّغ جورج عريضة الخبر. وركب سيارته وتوجه نحو المرفأ ليجد المهندسين قد باشروا في عملية إصلاح الثغرة الصغيرة التي أحدثتها المتفجرة في قعر أصلب اليخوت وأكثرها مقاومة للألغام والمتفجرات.

منافسة بين الأثرياء
وقع ذلك الحادث المقلق في وقت كانت الحرب الاسرائيلية – العربية الأولى تلقي بتداعياتها السلبية الواسعة على لبنان وسوريا والأردن.
وكانت حكومة رياض الصلح في حينه مشغولة بملء الفراغ الذي تركته إستقالة وزير الداخلية كميل شمعون. ولقد أحدثت تلك الإستقالة المفاجئة ضجة سياسية بسبب إعتراض “فتى العروبة الأغرّ” على تعديل الدستور بصورة تجيز للرئيس بشارة الخوري تجديد ولايته لمدة ست سنوات إضافية.
وعلى الرغم من ضآلة حجم عناصر الأمن العام اللبناني، وضعف إمكاناتهم المهنية، فقد حاول مدير الأمن العام في حينه الأمير فريد شهاب إجراء تحقيق واسع لعله يطمئن الحكومة الى سلامة الوضع الداخلي. علماً أن أعداداً كبيرة من جرحى الفلسطينيين كانت تصل تباعاً الى منطقة الجنوب، حاملة معها وقائع المجازر التي تنفذها عصابات الهاغانا والارغون وشتيرن، بهدف إرغام المواطنين الفلسطينيين على الهرب.

ولقد سجَّل قسم الدراسات في المنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان قائمة واسعة بعدد المجازر التي إرتكبتها العصابات الصهيونية في عهد ديفيد بن غوريون وموشيه شاريت. وجمع رئيس القسم، الأستاذ سليمان الشيخ، معلومات قيّمة حول الأساليب الوحشية التي استخدمت ضد المواطنين العزَّل في عشرات القرى، بحيث تحولت دير ياسين وكفر قاسم الى أبشع مظاهر الإضطهاد والرعب في “الكتاب الأسود”.
والثابت من الوقائع، التي سمحت “الوكالة اليهودية” بنشرها، أن منفذي عملية تفجير يخت هتلر كانوا ينتمون الى عصابة “بالماخ”. وهي فرقة سرية تابعة لعصابة “هاغانا” تدربت عناصرها على ممارسة أخطر العمليات وأكثرها شراسة.
بين الأسباب الملحّة لعملية تعطيل يخت هتلر في مرفأ بيروت كانت تكمن مخاوف القيادة الاسرائيلية من احتمال إستخدامه من قِبَل الدولة اللبنانية للإشتراك في الحرب المستعرة داخل فلسطين. خصوصاً أن شركة بناء السفن في “برمن” التي أشرفت على بنائه، أخذت في الإعتبار سلامة الفوهرر وحمايته. لذلك زودته بمدفعين من عيار خمسة – إنش، ومخزن يتسع لنقل 228 لغماً بحرياً.
ولكن القنصل جورج عريضة استلمه قطعة بحرية مجرَّدة من كل الأدوات الحربية الفتّاكة. وقد تنافس في ذلك الحين على شرائه مع أغنى أغنياء تلك الحقبة، أي الآغا خان وشاه ايران وملك مصر، فاروق.
وبحسب ما كتبته الصحف في ذلك الوقت فإن دوافع الشراء كانت مختلفة مع كل مزايد. فالآغا خان، زعيم الطائفة الإسماعيلية، كان ينوي إمتلاك أشهر يخت في العالم بغرض تقديمه هدية لعشيقته إيفيت لابروس، ملكة جمال فرنسا سنة 1930. ولما عقد قرانه عليها سنة 1944 أطلق عليها إسم “البيغوم” ولقّبها بـ “أميرة الشرق”.

أما بالنسبة الى شاه ايران محمد رضا بهلوي، فان إقتناء يخت هتلر كان يمثل إيماءة وفاء لروح والده الذي اقتلعه البريطانيون والاميركيون عن العرش سنة 1941 بسبب علاقته المميزة مع المانيا الهتلرية.
والمعروف عن هتلر أنه كان حريصاً على إهداء أصدقائه من زعماء العالم سيارة من طراز مرسيدس 5-4SK موديل سنة 1939. وهي سيارة فخمة مزودة بكل وسائل القوة والجمال والترف.
وقد إحتفظ في مرآب القصر بهذه الهدية القيّمة رضا بهلوي.
ولكن نجله الشاه محمد فضَّل التخلص منها إرضاء للاميركيين. لذلك أهداها للملك فاروق بعدما تزوج من شقيقته فوزية.
وبعد ثورة الضباط الأحرار سنة 1952، بيعت هذه السيارة، مع كل مقتنيات فاروق، عقب عزله. وفي مطلع الستينات شوهدت مركونة أمام منزل عادل حمدان في بيروت، صديق الرئيس كميل شمعون ورفيقه في رحلات الصيد.
يقول المؤرخ اللبناني يوسف إبراهيم يزبك إن هواية إقتناء اليخوت الفخمة لم تكن معروفة قبل ظهور الثروات المرتبطة بدول النفط. وكان الشاطىء اللبناني قبل الأربعينات يعجّ بزوارق صيد الأسماك.
وربما كان أول يخت كبير يدشن مياه الشاطىء اللبناني هو يخت القائد العسكري البريطاني اللورد ادموند اللنبي. وقد رسا به قبطانه عند محلة “عين المريسة” كي ينقل أعضاء لجنة كينغ – كراين من العاصمة الى طرابلس، تنفيذاً لرغبة الرئيس الاميركي وودرو ويلسون حول ضرورة الوقوف على آراء سكان المناطق التي كانت تخضع للامبراطورية العثمانية.

وهكذا أبحر يخت اللنبي من بيروت الى طرابلس، عقب إعلان إنتهاء الحرب العالمية الأولى، بغرض الإطلاع على مواقف وجهاء شمال لبنان، ورفع مقترحاتهم الى لجنة السلام الاميركية.
وبما أن كل صاحب يخت عابر للحدود مضطر الى تسجيله في قائمة المراكب البحرية، فقد سجله اللنبي تحت إسم ‘Maid of Honor’، أي “وصيفة الشرف”.
يؤكد أبناء القنصل جورج عريضة أن غاية والدهم من وراء شراء يخت هتلر كانت تجارية بحتة، وأنها غير مرتبطة بطلب الشهرة أو الجاه. ولقد تحدث أمامهم قبل أن يحزم أمره ويقرر الدخول في معركة المنافسة، بأنه سيحول اليخت الى سفينة سياحية بامتياز تجوب موانىء البحر الأبيض المتوسط… وأن هذا التغيير يحتاج الى تفكيك بعض أجهزته بحيث يصبح سفينة سياحية مزودة بكل وسائل البذخ والترف.
ولما قرر إجراء عملية التحويل من يخت خاص الى سفينة سياحية، أبلغه الملك فاروق، بالواسطة، أنه ينتظر معاينة هذه القطعة البحرية الفريدة في “مرفأ عين التينة”. أي المرفأ الخاص بمقر المنتزه في الاسكندرية، حيث كان يرسو اليخت الملكي “محروسة” الذي انتقل فاروق على متنه الى ايطاليا عقب صدور قرار عزله سنة 1952 من قِبَل “الضباط الأحرار”.

أخبرني ادوارد عريضة، الذي رافق والده جورج الى الاسكندرية، بأن صالة الاستقبال في اليخت كانت أول مظهر إسترعى اهتمام الملك فاروق. وهي صالة وسيعة تتسع لأكثر من خمسين شخصاً. وفي صدر تلك الصالة الفارهة أقيم “بار” المشروبات الروحية الذي يتوسطه مجسَّم نافر للكرة الأرضية. ويبدو أن ذلك المجسَّم صُمِّم حسب طلب ادولف هتلر الذي كان يحلم بإخضاع سكان قارات الكرة الأرضية.

بعد معاينة الحجرات بسرعة، كرّر فاروق عرضه السابق بأنه مستعد لمنح والدي لقب الباشوية، مقابل التنازل عن ملكية اليخت.
ولما إعتذر والدي عن عدم قبول العرض، إستأنف الملك جولته فوق ظهر المركب، محاطاً بعدد من أفراد حاشيته. وبما أنه كان مصاباً بمرض السرقة وهوَس الإختلاس، فقد إستعار المنظار الذي كنت أحمله بحجة التجربة، ثم ناوله الى أحد مساعديه، الذي أخفاه فوراً. ولما أبصر جهاز البوصلة معلقاً فوق ركن القيادة، طلب الحصول عليه أيضاً. ولقد تعذَّر خلعه من مكانه، الأمر الذي حفظه من نزوة “ملك الكوتشينة” وولعه بالسرقة، كما كتب عنه مصطفى أمين.
وعلق ادوارد على هذه الحادثة بالقول إنه هو الذي إحتفظ بجهاز البوصلة والجرس الضخم. وقد نقلهما، بعدما بيع اليخت كخردة، الى منزل العائلة في قرية “ضهر العين”. وهي قرية صغيرة لا تبعد عن “مصنع عريضة”، عند مدخل مدينة طرابلس، أكثر من عشرة كيلومترات. وقد اختار آل عريضة هذه القرية كملاذٍ شتوي، هرباً من قسوة الشتاء في قريتهم الجبلية الواقعة قرب بشري والتي تُدعى “بقرقاشا”.

بين هتلر وتيتو
على الرغم من إنتاج آلاف اليخوت في المصانع الألمانية والهولندية والايطالية والفرنسية واليابانية، إلا أن شهرة يخت هتلر “غريل” ويخت تيتو “غالب” تفوقت على شهرة كل المراكب الأخرى في العالم. والسبب أنهما استُخدِما من قِبَل زعيمَيْن أثارا ضجيجاً سياسياً خلال مرحلتَيْن مختلفتين من مراحل القرن العشرين.

صحيح أن المارشال جوزب بروز تيتو، مؤسس جمهورية يوغسلافيا المتحدة السابقة، لم يكن يملك الحجم السياسي والعسكري الذي حظي به أدولف هتلر… ولكن الصحيح أيضاً أن حكاية يخته لا تقل طرافة وتشويقاً عن حكاية يخت الفوهرر.

وكما عُرِض يخت هتلر للبيع في مزاد علني عقب إنهيار الرايخ الثالث وانتصار دول الحلفاء… كذلك عُرِض يخت تيتو للبيع في مزاد علني بعد موت صاحبه، وتفكك يوغسلافيا الاتحادية مطلع التسعينات.
وهذا اليخت الذي سمّاه تيتو “مركب السلام”، تيمناً بسياسة كتلة عدم الإنحياز، كان يحمل إسم “غالب” أثناء صنعه سنة 1938.
ويبلغ طوله 120 متراً، أي أقل بعشرة أمتار من يخت هتلر. وقد اشتراه رجل الأعمال الاميركي من أصل يوناني جون بابانيكولاو من جمهورية مونتينغرو التي انفصلت عن يوغسلافيا الاتحادية. وكان ينوي تحويله الى سفينة سياحية، لولا أن رسوم الرسو في الحوض البحري ارتفعت الى نصف مليون دولار سنوياً.
ويتميز يخت تيتو عن يخت هتلر بالاستقبالات التي أقامها الزعيم اليوغسلافي لأصدقائه ومعارفه، في حين لم يستعمل الزعيم النازي يخته “غريل” سوى ثلاث مرات فقط. والسبب أنه كان يصاب سريعاً بدوار البحر، الأمر الذي يدفعه الى التقيؤ.
وكان “غالب” شاهداً على مناسبات تاريخية مهمة، بينها إجتماع تيتو بونستون تشرشل على متنه. كذلك استقبل زعماء حركة عدم الانحياز، إضافة الى النجم السينمائي ريتشارد بورتون الذي جسّد شخصية تيتو على الشاشة الكبيرة بالتعاون مع الممثلة الحسناء اليزابيث تايلور.

ومن المؤكد أن زوّار هذا المركب سيفاجأون باختفاء ذلك البذخ بعد موت تيتو وزوجته بوفانكا. ولم يبقَ من كل ذلك الترف والإسراف سوى سريرَيْن مصنوعين من خشب الجوز وخزانة فارغة من البذلات والفساتين. وفي قاعات أخرى من السفينة تتسرب مياه الأمطار، وتنتشر رائحة الرطوبة وصدأ المغاسل المهجورة.
أما حكاية يخت هتلر “غريل”، فقد تضمنت مشاكل أخرى مرتبطة بالتقلبات التي واجهتها هذه السفينة منذ الإعلان عن بنائها في مدينة “بريمان” بواسطة شركة “بلوهوم اند فوس”.
وفي حفلة التدشين، قدّم رئيس الشركة هذا اليخت الفخم الى الفوهرر كهدية من الشعب الألماني.
وإعترف الرئيس أنها المرة الأولى التي تجهز فيها الشركة قارباً من هذا النوع بنظام “هيدرولي” يمنع الاهتزاز، وذلك حفاظاً على صحة الزعيم النازي.

وكان ذلك اليخت يتألف من ثلاثة أجنحة، بينها جناح لهتلر وعشيقته ايفا براون، وجناح آخر تستعمله ايفا وحدها أثناء التبرج بعد السباحة، وجناح ثالث للأميرال دانز، قائد البحرية.
لذلك قام دانز بعد انتحار هتلر باستخدام اليخت لمهام عسكرية.

السفر الى المكسيك

إنتهت المواجهات الطائفية في لبنان سنة 1860م، بحدوث مجازر متنقلة بين الدروز والمسيحيين.
إبتدأت المناوشات في بلدة “بيت مري”، ثم إمتدت الى حاصبيا وراشيا. وفي كل بلدة مختلطة كان المسيحيون يهربون الى سرايا الدولة على أمل أن تحميهم القوات العثمانية الحاكمة. وكثيراً ما كان القادة الأتراك ينحازون الى الدروز، بدليل أنهم كانوا ينزعون الأسلحة الثقيلة من أيدي المسيحيين، ويسلمونها الى مهاجميهم الدروز القادمين من حوران في سورية. وكذلك فعلوا في زحلة ودير القمر، البلدتين اللتين أحرِقتا إنتقاماً، الأمر الذي اضطر السكان المسيحيين الى الهرب باتجاه دمشق حيث تدخل عبدالقادر الجزائري لإنقاذ شريحة كبيرة منهم.
ومع أن قرى منطقة بشري لم تتعرض لمثل هذه المجازر الطائفية، إلا أن وقعها المؤلم على كل المسيحيين أخافهم، ودفعهم الى الهجرة بحثاً عن الأمان والاستقرار.
وكان من الطبيعي أن تبحث كل عائلة لبنانية عن أقربائها في دول المهجر بحيث تلجأ اليها، وتقيم في ضيافتها خلال فترة التأقلم والانتظار.
ولم يجد حنا عريضة وزوجته حنة، من قرية “بقرقاشا”، أفضل من المكسيك محجة يقصدونها، حيث يقيم أقرب الأنسباء اليهما.
وبعد انتظار طويل في بيروت، أقلتهما مع الولدَيْن سليمان ويوسف باخرة متجهة الى بريطانيا. وتخلف عن ركب العائلة الإبن الأصغر منصور.

وبما أن حنة كانت أثناء السفر من مرفأ بيروت تعاني من آلام الشهر التاسع من الحمل، فقد وُلِد الطفل جورج على متن الباخرة الراكنة في مرفأ مدينة “ليفربول”، الأمر الذي سهل للمولود اللبناني الحصول على الجنسية البريطانية.
كل هذا جرى في سنة 1890، قبل أن تستأنف الباخرة رحلتها الى المكسيك.
وفي الطريق الى اميركا الجنوبية، نقلت الباخرة ركاباً مصابين بمرض الحمّى الصفراء. وكان بين ضحاياها حنا عريضة، الذي اضطرت عائلته الى دفنه في جزيرة “انتيغوا”. وهي جزيرة صغيرة تقع شمال فنزويلا، ويقطنها أكثر من خمسمئة مغترب لبناني. وهم حريصون على صيانة مدفن المرحوم حنا عريضة، وتثبيت الشاهد الرخامي الذي يحمل إسمه، خصوصاً أن الجزيرة تتعرض عادة لعواصف هوجاء تقتلع الأشجار والمنازل الخشبية!
استمرت رحلة العذاب أكثر من شهرين ركنت فيها الباخرة الى عدة مرافىء بغرض نقل الركاب ومعالجة المرضى، ودُفِن مَنْ قضى منهم في الجزر القريبة من خليج المكسيك.
وفي منتصف سنة 1890، التقت حنة عريضة وأولادها الثلاثة مع أنسبائهم داخل العاصمة مكسيكو. وسرّهم أن يجدوا في المهجر عائلة محبة، حضنتهم باهتمام وشجعتهم على البقاء أطول مدة ممكنة.
وعلى الرغم من عائق لغة التفاهم والتواصل، فقد أثبت الاخوان الثلاثة أنهم قادرون على التأقلم والتكيّف مع البيئة الجديدة.

أمضت هذه العائلة المهاجرة في المكسيك 27 سنة، أي حتى سنة 1927، ولِدَ خلالها أنور، وانضم الى أشقائه ليشكل الأربعة فريق عمل أدهش المسؤولين، وشجع المغتربين على تقديم العون والمساندة لمختلف مشاريعهم الناجحة. وكان بين كبار المتعاونين معهم ميغال العبد، الذي قدّم للدولة اللبنانية هدية ثمينة تمثلت ببناء ساعة ضخمة تحمل إسمه “ساعة العبد” في ساحة البرلمان في بيروت. وميغال هو نسيب بي بي عبد، مؤسس منتجع “الأكابولكو” في منطقة “الجناح”، ومطعم بيبلوس على شاطىء مدينة جبيل.
وبسبب تعلق الاخوان عريضة بوطنهم لبنان، حافظ ثلاثتهم على زيارة الأنسباء في ربوعه بشكل متواصل كلما سنحت لهم ظروف العمل. كذلك عملوا بنصيحة والدتهم حنة وتحقيق رغبتها في أن تكون كنتها لبنانية.
وقد عَمِل الثلاثة بهذه النصيحة. وفي سنة 1925 زار جورج قريته في شمال لبنان، واختار أن تكون زوجته هند فضول، كريمة إحدى العائلات العريقة في المنطقة. وقد سافرت معه الى المكسيك، ثم عادت معه الى لبنان لتقضي آخر سنوات عمرها في المنزل الشتوي في بلدة “ضهر العين”.
كذلك فعل شقيقه سليمان، الذي عقد قرانه على صبية من بلدة بقاع – كفرا، أعلى قرى لبنان، والتي بنت شهرتها على كون القديس شربل أحد أبنائها.
أما الأخ يوسف فقد صاهر عائلة المعماري من زحلة.

وقبل أن يقرر جورج عريضة – الذي اشترى بعد الحرب العالمية الثانية يخت هتلر – الرجوع الى لبنان نهائياً، زار صديقه رئيس الجمهورية (سنة 1945) ميغال إليمان، مودعاً.
ولم يترك الرئيس المكسيكي هذه المناسبة تمر دون أن يكرمه في احتفال حضره كل أعضاء الحكومة، ورجال السلك الدبلوماسي، وأبناء الجالية اللبنانية.
وألقى الرئيس خطاباً شكر فيه الاخوان عريضة على إسهامهم في النهضة الصناعية التي شهدتها البلاد، ثم قدّم لجورج مفتاح العاصمة كعربون وفاء وتقدير لمغترب لبناني أفنى عمره في خدمة المكسيك. كما منحه الوشاح الوطني من أعلى الرتب.
بعد الانتصارات السهلة التي حققتها القوات النازية الزاحفة باتجاه الدول المتاخمة لألمانيا، كان سقوط فرنسا المدوي سبباً لازدياد مطامع ادولف هتلر وإصراره على غزو بريطانيا. خصوصاً أنه كان يتوقع من الطابور الخامس الذي يتزعمه صديقه الملك ادوارد الثامن وزعيم الحزب النازي في بريطانيا السير اوزوالد موزلي (1896-1980)، انتفاضة شعبية تساعده على تأمين نصر سريع.
والملفت أن اليخت الذي حرص هتلر على تجيير ملكيته الى الاميرال “دونتز”، لم يجد ملاحوه الوقت الكافي للتخلص من أوراق ذات أهمية حربية بالغة الخطورة. وهكذا عثرت عائلة عريضة على مجموعة صور تمثل هتلر وهو يدشن اليخت محاطاً بكبار القادة، ومرتدياً معطفه الجلدي الذي يفضل الظهور به أمام الجماهير، وقد رفع يده اليمنى بالتحية النازية. كما عثرت أيضاً على صور نادرة تمثل الفوهرر مستلقياً على كرسي الاستراحة وهو بكامل أناقته وقد شبك يده بيد خليلته ايفا براون.

وفي أحد أدراج المركب عثر آل عريضة على وثيقة تشير الى المهمة الحربية المطلوبة من اليخت “غريل” عقب تحقيق الانتصار على بريطانيا وإعلان استسلام المملكة.
ومع أن الوثيقة لم تكن تحمل تاريخ تلك المهمة، إلا أن تقديرات المراقبين الذين إطلعوا على نصوصها رجحت إعدادها عقب سقوط فرنسا في شهر حزيران (يونيو) 1940. وكان ذلك السقوط مدوياً في كل اوروبا، خصوصاً بعدما احتلت جحافل هتلر بولندا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ.
وكان ذلك بالطبع قبل أن يقرر مستشار الرايخ الثالث مهاجمة روسيا في شهر آب (اغسطس) سنة 1942.

وهذا مختصر لمضمون الوثيقة:

بعد إنقضاء شهرين على سقوط فرنسا، وضعت البحرية الالمانية خطة بقيادة الاميرال دونتز تقضي باحتلال بريطانيا على اعتبار أن مسافة إنطلاق القوات النازية من الشواطىء الفرنسية لا تبعد أكثر من 275 ميلاً. واختير لتلك العملية إسم مشفر هو “أسد البحر”.
وكانت الخطة تتألف من ثلاث مراحل: المرحلة الأولى تبدأ بتطويق الأسطول البريطاني في بحر الشمال والقناة، تعقبها عملية إنزال للقوات الغازية واحتلال المقاطعات الجنوبية.

المرحلة الثانية تسجل مشاهد وصول هتلر منتصراً على متن يخته “غريل”، المتوجه الى “هوايت هول” عبر نهر التايمز. ومن المفترض – حسب السيناريو الألماني – أن يصعد رئيس الحكومة ونستون تشرشل الى ظهر المركب لتقديم وثيقة الاستسلام.
المرحلة الثالثة، تشهد إنطلاق الفوهرر الى قصر ويندسور، الذي اختاره ليكون مسكنه الدائم، كلما قرر زيارة البلد المحتل بريطانيا.
ومن أجل تسريع تنفيذ هذه المراحل، رسا اليخت “غريل” في مرفأ “اوستند” في بلجيكا، حيث يكون قريباً لتنفيذ المهمة.
كما يقول المثل “حساب الحقل لم يتوافق مع حساب البيدر”، بدليل أن المقاومة البريطانية أحبطت عملية الإنزال، ومنعت القوات الألمانية من التقدم بسبب حاجز النيران المحرقة التي غطت الشاطىء.
واستعاض آمر سلاح الجو هيرمان غورنغ عن ذلك الغزو الفاشل بشن غارات مدمرة ضد مدن بريطانية أهمها: ليفربول وغلاسكو ومانشستر وبرمنغهام وبليموث.

وبعد تلك الانتكاسة التاريخية، بدّل هتلر مواقع اهتماماته، واتجه نحو روسيا، الأمر الذي اعتبره المؤرخون بداية إنكفاءاته المتواصلة.

المهم، أن جورج عريضة وأولاده احتفظوا بتلك الوثيقة كتذكار مكلف لليخت الذي أربكهم منذ سنة 1946. أي منذ امتلاكه في مزاد علني.

بعد التخلص من “يخت هتلر”، وما تسبب من متاعب لقنصل بريطانيا في مدينة طرابلس جورج عريضة، شعر أولاده بأن الفرصة متاحة للتفرغ الى الاهتمام بأكبر مصنع للنسيج والحياكة في الشرق الأوسط. وهو المصنع الذي شُيِّدَ في محلة “البحصاص” عند مدخل عاصمة الشمال فوق رقعة تزيد مساحتها على نصف مليون متر مربع، مع فريق عمل يزيد تعداده على ثلاثة آلاف شخص.

بقي السؤال الأخير: ما هو الهدف من إمتلاك يخت يحمل فوق ظهره بذرة هلاكه، خصوصاً أن جورج عريضة لم يكن بحاجة الى مزيد من الثروة، هذا في حال توقع أن يستخدمه كمركب سياحي في البحر الأبيض المتوسط.

الجواب على هذا السؤال جاء من نجله ادوارد الذي قال:

“لمقتنيات المشاهير ومخلفاتهم جاذب خاص يتعدى هواية جمع التحف النادرة الى الولع بامتلاك قطع فريدة تتبارى دور العرض والمزادات في جمعها وتسويقها. وكما تعدت أسعار مجوهرات جاكلين كينيدي كل الأرقام المتوقعة… كذلك تعدت في أحد المزادات، قيمة خصلة الشعر المقصوصة من شعر نابليون كل الأرقام الخيالية أيضاً. واستناداً الى هذا الهوس الجذاب، فإن المعطف الجلدي الذي كان يرتديه هتلر، قفز ثمنه على المليون دولار في مزاد علني، سنة 2010”.

وربما كان جورج عريضة سنة 1946 خاضعاً لهوس شراء مقتنيات المشاهير مثله مثل الآغا خان والشاه وفاروق!

 

سليم نصار – النهار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى