أبرز الأخبار

سيناريوهات ما بعد 16 أيّار: سلامة مطاردًا أو محتجزًا

أسبوع ونصف يفصلان المدّعى عليه لبنانيًا والمشتبه به فرنسيًا، حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، عن موعد استجوابه في 16 أيّار المقبل في باريس، أمام القاضية الفرنسيّة آود بوريسي. حتّى اللحظة، لم يصدر عن الحاكم ما يوحي باتجاهه نحو حضور جلسة التحقيق أو التغيّب عنها، وإن لوّح فريق الدفاع عنه بذرائع تمهّد للتهرّب من هذا الاستجواب.

إلا أنّ البحث في سيناريوهات ما بعد 16 أيّار، يقودان نحو حصرها بين احتمالين: إمّا سيكون سلامة محتجزًا على ذمّة التحقيق على الأراضي الفرنسيّة، إذا حضر الجلسة، أو سيكون مطاردًا كمطلوب دولي إذا تخلّف عنها. وفي الحالتين، سيكون على اللبنانيين البت بعدها بمصير حاكميّة مصرف لبنان. هذا إذا قرّر لبنان أن لا يعود ماليًا ونقديًا إلى العصور الوسطى.

ببساطة: أمام لبنان 12 يومًا قبل الدخول في منعطف نقدي ومالي حسّاس وتاريخي، وما بعد 16 أيّار لن يكون كما قبله.

سيناريوهات حضور الجلسة
في حال حضر الحاكم جلسة التحقيق في باريس، ستمتلك القاضية آود بوريسي –من الناحية النظريّة- ثلاثة خيارات لا رابع لها.

الخياران الأوّل والثاني، هما ترك الحاكم إمّا بمنأى عن أي ملاحقة، أو الإبقاء على وضعيّته الحاليّة كشاهد أو مستمع إليه في هذا الملف. إلا أنّ الخيارين مستبعدان بشكل شبه مطلق حتّى اللحظة. إذ كما هو معلوم، وجّهت القاضية بوريسي أساسًا لوائح اتهام رسميّة لكل من صديقة الحاكم الأوكرانيّة آنّا كوزاكوفا والمصرفي مروان خير الدين، على خلفيّة معاونة الحاكم في تبييض الأموال المشتبه باختلاسها من مصرف لبنان. وعلى هذا الأساس، من المستبعد جدًا أن تترك بوريسي الحاكم نفسه بمنأى عن لوائح الاتهام الرسميّة، بعدما وجهت سابقًا لوائح اتهام لآخرين، على أساس الأفعال التي تشتبه بقيام الحاكم بها.

السبب الآخر الذي يدفع لاستبعاد الخيارين، هو الاستدعاء نفسه إلى باريس. إذ كان بمقدور القاضية بوريسي أن تكتفي بالاستماع إلى الحاكم في بيروت، لو كان هدف الجلسة جمع المزيد من المعلومات فقط. مع الإشارة إلى أنّ القاضية أبلغت سلامة بموعد الاستجواب في باريس خلال جولتها السابقة في بيروت، في شهر آذار، والتي استجوبت خلالها حاكم مصرف لبنان في قصر العدل. وهذا ما يعني أن هدف جلسة الاستجواب الباريسيّة لن يقتصر على توجيه الأسئلة، والتي كان يتم توجيهها بالفعل خلال جولة شهر آذار (راجع المدن).

باختصار، ما يبرّر استدعاء الحاكم إلى باريس ليس سوى توجيه لائحة الاتهام له وجاهيًّا، كما ينص القانون الفرنسي، والادعاء عليه، تمامًا كما جرى سابقًا مع كوزاكوفا وخير الدين. وهذا ما يقودنا للحديث عن الخيار الثالث المرجّح للغاية حتّى الآن.

سلامة محتجزًا ومدّعى عليه
الخيار الثالث المرجّح هو توجيه لائحة الاتهام رسميًا ووجاهيًا للحاكم، ليصبح بعد تلك اللحظة مدّعى عليه أمام القضاء الفرنسي. وفي الوقت الراهن، باتت جميع المؤشّرات تشير إلى اتجاه الأمور نحو هذا السيناريو، وخصوصًا في ضوء التحقيقات التي جرت مع ماريان الحويّك ورجا سلامة خلال الأسبوع الجاري، والتي أظهرت مدى تعمّق وتوسّع التحقيق الفرنسي في الجرائم المنسوبة لحاكم مصرف لبنان والحلقة المحيطة به (راجع المدن). مع العلم أنّ المحققين الأوروبيين طلبوا هذا الأسبوع رفع السريّة المصرفيّة عن تفاصيل مئات التحويلات المتعلّقة بحسابات رجا سلامة، والتي تم الكشف عن حركتها العامّة سابقًا، ما يشير مرّة أخرى إلى دقّة المعطيات التفصيليّة التي باتت الموجودة بحوزة المحققين.

بمجرّد الادعاء على سلامة، سيكون أمام القاضية بوريسي خياران مرّة أخرى. الأوّل هو توقيفه وجاهيًا، وإحالته إلى قاضٍ آخر للبت بإمكانيّة إطلاق سراحه بشكل مشروط مع منع السفر. أمّا الثاني، فهو تركه على ذمّة التحقيق، مع منعه من السفر واحتجاز جواز سفره، تمامًا كما جرى مع المصرفي مروان خير الدين خلال فترة احتجازه في باريس. وفي هذه الحالة، سيُفرض على سلامة مجموعة من الإجراءات، من قبيل الامتناع عن التواصل مع أي مسؤول في المصرف المركزي، أو أي معني بالملف الذي يجري التحقيق بشأنه، كما سيُمنع من العودة إلى بيروت بانتظار استكمال التحقيق معه، أو ربما بانتظار صدور الأحكام النهائيّة.

لاحقًا، سيكون بإمكان سلامة أن يطلب العودة إلى بيروت، كما فعل خير الدين (راجع المدن)، وسيكون بإمكان القضاة الفرنسيين البت بهذا الأمر، حسب درجة تعاون سلامة مع التحقيق، أو حسب اطمئنانهم لمستوى التعاون المتوقّع لاحقًا. والسماح بعودته، قد يكون مستبعدًا اليوم، بالنظر إلى خطورة التهم التي سيتم توجيهها إلى سلامة، مقارنة بالتهم التي تم توجيهها إلى خير الدين.

لكن في جميع الحالات، وحتّى إذا عاد إلى بيروت، لن يكون بإمكان سلامة التواصل مع مسؤولي المصرف المركزي ولا سائر الشهود والمعنيين بالملف. وهذا تحديدًا ما يفتح باب السؤال عن مصير حاكميّة مصرف لبنان خلال الأسابيع المقبلة.

مطارد بنشرة حمراء.. ومصير الحاكميّة
لكل ما سبق ذكره من أسباب، يرجّح معظم من يتابع هذا الملف أن يتهرّب الحاكم من حضور الاستجواب، لتفادي تلقّي الضربة القاضية في باريس. لكنّ ما بعد 16 أيّار سيكون في هذه الحالة التالي: صدور نشرة حمراء عن الإنتربول، تطلب تسليم باريس حاكم مصرف لبنان، بعد الادعاء عليه وتوجيه لائحة الاتهام له من قبل القضاء الفرنسي. في هذه الحالة، سيكون من المتعذّر، مرّة جديدة، أن يمارس الحاكم مهامه الطبيعيّة في المصرف المركزي، وخصوصًا تلك المتصلة بتوقيع طلبات التحويل وفتح الاعتمادات مع المصارف المراسلة. وبقاء الحاكم في منصبه، لن يعني أقل من عزلة ماليّة شاملة وكاملة.

هنا، وفي حال ابتعاد الحاكم عن منصبه قبل شهرين من انتهاء ولايته، سيكون على الحكومة أن تفكّر في مصير الحاكميّة نفسها. ومرّة جديدة، تظهر السيناريوهات المتعددة:

– الحل القانوني والطبيعي، هو استلام نائب الحاكم الأوّل مهام الحاكم، تمامًا كما ينص قانون النقد والتسليف، بانتظار تعيين الحاكم الأصيل الجديد. إلا أنّ المضي بهذا الخيار يبدو متعذّرًا اليوم، نظرًا لتمنّع نائب الحاكم الأوّل عن أداء هذه المهمّة، بضغط من رئاسة مجلس النوّاب (مرجعيّة الموقع المالي الشيعي السياسيّة.. كالعادة).

– السيناريو الثاني، سيكون مضي مجلس الوزراء بتعيين حاكم جديد للمصرف المركزي، ولو في ظل الفراغ الرئاسي. وهذا الطرح، تواجهه مجموعة من المعوّقات، ومنها التشكيك بقانونيّة تعيين حاكم لمصرف لبنان في ظل حكومة تصريف، وهو ما يخرج عن النطاق الطبيعي والضيّق لتصريف الأعمال. كما يُطرح في الوقت الراهن إشكاليّة تعيين الحاكم بغياب رئيس للجمهوريّة، ما سيمنع الحاكم الجديد من حلف اليمين الدستوري أمام الرئيس كما ينص قانون النقد والتسليف.

– أمّا السيناريو الثالث، فهو تعيين حارس قضائي، بانتظار تعيين الحاكم الجديد. وهنا، تُطرح مجددًا الإشكاليّات المتعلّقة بصلاحيّات هذا الحارس، وقدرته على إدارة دفّة الأزمتين النقديّة والمصرفيّة التي تحتاج إلى قرارات وتعاميم دوريّة ومعالجات ذات طابع حسّاس.

هكذا، ستتعدّد السيناريوهات المتعلّقة بمصير الحاكم سواء حضر أو لم يحضر في 16 أيّار المقبل، كما ستتعدّد السيناريوهات المتعلّقة بمصير الحاكميّة نفسها. لكنّ الأكيد هو أن لبنان سيشهد فصولًا مثيرة وحاسمة، خلال أيّام قليلة وسريعة. كما سيشهد اللبنانيون تفاصيل إضافيّة في ما يخص الارتكابات المنسوبة إلى الحاكم، مع انكشاف المزيد من تفاصيل التهم الموجّهة له قريبًا. المهم، هو أن هذه المرحلة ستطوي صفحة الحاكم الذي هيمن على السلطة النقديّة لثلاثة عقود متتالية، من دون أن يسائله أحد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى