أخبار دولية

اغتيال “سليماني الثاني” في طهران: هذا دوره في لبنان وسوريا

إيران مخروقة أمنيّاً حتّى النّخاع.

هذه هي الخلاصة التي لا مفرّ من إعلانها بعد كلّ الاغتيالات التي طالت أساسيّين في قيادتها الأمنية، من قاسم سليماني إلى محسن فخري زاده وصولاً إلى صيّاد خدائي، الظلّ الأمني والهجومي والتنفيذي لسليماني، “اليدُ الضّاربة” لفيلق القدس و”الرّأس المُدبّر” للعمليات الخارجيّة العقيد صيّاد خدائي، والذي خسرت إيران بمقتله ربما أكثر مما خسرت بمقتل جنرالها الأوّل في بغداد.

عملية الاغتيال تحمل بصمات الموساد، لأنّها نفّذت بطريقة مشابهة لعملية اغتيال محسن فخري زاده في تشرين الثاني 2020: إطلاق نار مُباشر دون سّيارات مُفخّخة أو استهداف جويّ.

اغتيالٌ يوازي في أهميّته وعمق “الاختراق”، اغتيال سليماني. لكنّه أقسى لأنّه وقع داخل حدود إيران، بل وفي قلب العاصمة، وفوق هذا: في وضح النّهار وأمام منزله شرق العاصمة.

سارَع حرس الثّورة الإيراني إلى تحميل المسؤوليّة إلى من سمّاهم “عناصر الاستكبار الدّولي ومُعارضي الثّورة الإسلاميّة” دون أن يُسمّيَ جهة بعينها. من يعرف قراءة الأدبيّات الإيرانيّة، يُدركُ أنّ هذا الاتهام “مطّاط”. إذ يشمل المُعارضين للنّظام مثل مُنظّمة مجاهدي خلق، وصولاً إلى خصوم إيران الخارجيين وتحديداً الولايات المُتحدة وإسرائيل.

 

لكن لماذا يقف الموساد خلف اغتيال العقيد خدائي؟

أوّلاً: تشير احترافيّة المنفذين أنّهم تلقّوا تدريبات عالية المُستوى، هذا عدا عن دراستهم الدّقيقة لإحداثيّات المكان حيث نفّذوا العمليّة. هُنا تُستبعد فرضيّة أنّ المنفّذين هم مُعارضو النّظام.

فقد أطلقَ المُنفّذان، المُرجّح أنّهما كانا على متن درّاجة ناريّة، 5 رصاصات نحو العقيد خدائي. استقرّت 3 منها في رأسه مباشرةً و2 في يده. وهذا يُؤكّد دراسة المكان بعناية فائقة واختيار التّوقيت وإخلاء ساحة الاغتيال بسرعة، أنّ جهازاً محترفاً يقف وراء الاغتيال.

ثانياً: تُعزّز طبيعة عمل الضّابط خدائي فرضيّة وقوف الموساد خلف العمليّة. إذ تشير معلومات “أساس” التي حصلَ عليها من مصادر إقليميّة واسعة الإطّلاع أنّ العقيد خدائي كان مسؤولاً عن كلّ شحنات الأسلحة النّوعيّة والتقليديّة التي تصل إلى مطار دمشق الدّوليّ، ومنه إلى حزب الله في لبنان. وتقول المعلومات إنّه كان عائداً لتوّه من سوريا حين وصلت إليه رصاصات إسرائيل.

كما أنّه مسؤولٌ أيضاً عن تطوير برنامج الطّائرات المُسيّرة لفيلق القدس وأذرعه في المنطقة. وليسَ صدفةً على الإطلاق أن تأتي عمليّة الاغتيال، فوراً بُعيد أن كشف قائد قوّة القدس الجنرال إسماعيل قاآني عمّا سمّاها “عمليّة ناجحة للحرس في أجواء فلسطين المُحتلّة باستخدام طائرات مُسيّرة”.

ثالثاً: قبل اغتيال خدائي بأيّام قليلة، كان سلاح الجوّ الإسرائيلي قد كثّف غاراته على أهدافٍ إيرانيّة، كُلّها تتعلّق ببرامج التّسلّح النّوعي والطائرات المُسيّرة. إذ استهدفت الطّائرات الإسرائيليّة أكثر من 3 أهداف إيرانيّة في سوريا خلال أقلّ من 10 أيّام، آخرها كان قبل 72 ساعة من عمليّة الاغتيال في محيط منطقة السّيدة زينب.

رابعاً: سارَعت وسائل الإعلام الإسرائيليّة لتوجيه عدّة اتهامات للعقيد المُستهدف في قلب طهران، دون أن تشير صراحةً إلى دور الموساد في تصفيته.

وذكرَت قناة “كان” العبريّة أنّ الضّابط الإيرانيّ مسؤول عن “محاولات إيذاء شخصيّات إسرائيليّة في تركيا واليونان وكولومبيا”. بدورها، ذكرت القناتان “12” والـ13″ أنّ خدائي يقف وراء سلسلة من الهجمات ضدّ إسرائيليين في العالم، عدا عن تخطيطه لاختطاف إسرائيليين في الخارج.

خامساً: يأتي الاغتيال بعد 5 أشهرٍ من استهداف مُنشأة للطّائرات المُسيّرة تابعة للحرس الثّوريّ الإيرانيّ في محافظة كرمنشاه في عمليّة أمنيّة إسرائيليّة، ردّت عليها إيران بقصف ما زعمت أنّه مقرٌّ للموساد الإسرائيليّ في أربيل شمال العراق. والاغتيال يرتبط بأحد فصوله حتماً بدور خدائي في تطوير سلاح المُسيّرات الذي باتَ من أكبر مصادر القلق في تل أبيب.

 

كيف هيّأ الموساد الرّأي العام للاغتيال؟

قبل أسابيع قال الإعلام الإسرائيليّ إنّ الأجهزة الأمنيّة استجوبت ضابطاً في فيلق القدس الإيرانيّ داخل الأراضي الإيرانيّة وانتزعت منه اعترافات زعمت أنّها مُسجّلة وموثّقة حول نيّة “الفيلق” استهداف القنصل الإسرائيلي في تركيا، وصحافي فرنسيّ وجنرال أميركيّ مُتقاعد. وقد أوصل الإسرائيليون هذه المعلومات إلى الإدارة الأميركية، في سياق إقناعها بعدم توقيع اتفاق نووي يضمن رفع الحرس الثوري الإيراني عن لوائح الإرهاب، ويطلق أيديه في المنطقة.

بعد ذلك، قالت وسائل إعلام عبريّة إنّ جهازيْ الموساد والشّاباك أحبطا محاولة الاستخبارات الإيرانيّة اختطاف رئيس أركان الجيش الأسبق موشيه يعلون.

يُضاف إلى كلّ هذا التحذيرات الإسرائيليّة حول خطورة التغاضي عن تطوّر التّمدّد الإيرانيّ في سوريا، عقب تقارير تحدّثت عن إعادة تموضع لقوّات الرّوسيّة ونقل قسمٍ منها إلى جبهات القتال في أوكرانيا.

لم يعد سرّاً الدّور الذي لعبه العقيد خدائي في تمكين النّفوذ الإيرانيّ في سوريا، خصوصاً في المنطقة المُتاخمة للحدود مع فلسطين المُحتلّة. كذلك دوره المُهم في نقل السّلاح من إيران إلى سوريا ولبنان، وخصوصاً المُسيّرات.

هيّأ الموساد الرّأي العام وبرّأ “ذمّته” أمام الأميركيين، ونفّذ العمليّة.

ليست المرّة الأولى التي يضربُ الموساد في الدّاخل الإيرانيّ ويُحرج الأجهزة الإيرانيّة بكافّة فروعها. قبلها كانت عملية زاده في 2020. قبلها سرقة الأرشيف النّوويّ الإيراني من قلب إيران في عمليّة سرّية في 2018. وبعدها تفجيرات في مُنشأة نطنز النوويّة مرّتيْن، في نيسان وكانون الأوّل من سنة 2021. هذا عدا المُنشآت العسكريّة ومخازن الأسلحة التي استُهدِفَت عدّة مرّات في أنحاءٍ مُختلفة من إيران، وكان التّبرير الإيرانيّ يتراوح بين “ماس كهربائيّ، وانفجار قوارير أوكسجين أو غاز”. أضف إلى كلّ هذا الاستهداف الذي كان شبه يومي لقواعد وقوافل إيران وحزب الله في سوريا، خلال العامين الماضيين.

العامل الوحيد المُشترك بين كلّ ما سلف من عمليّات هو اسمٌ واحد، كان يعمل نائباً لجهاز الموساد والعقل المُدبّر الفعليّ فيه، واليوم هو رئيس الجهاز ديفيد برنياع الذي ترأس الجهاز كمُكافأة له على نجاح عمليّاتٍ قادها في العمق الإيرانيّ.

ماذا في السّياسة؟

تأتي العمليّة في ظلّ واقعٍ إقليميّ ودوليّ مُعقّد. فإسرائيل حتّى السّاعة لا تستطيع توجيه ضربة عسكريّة لإيران لاعتباريْن رئيسييْن:

الأوّل: ردّة الفعل الإيرانيّة وحجمها وتأثيرها على الكيان العبريّ بناءً على “ترابط الساحات”.

الثّاني: سعي الولايات المُتّحدة لضمان الاستقرار في الشّرق الأوسط في ظلّ الحرب النّاشبة في أوكرانيا، وعدم رغبة إدارة بايدن في فتح حربٍ تلهيها عن أولويّاتها في وجه روسيا والصّين.

يأتي الخرق الأمنيّ مع محاولات قطريّة وأوروبيّة لدفع المُحادثات النّوويّة مع إيران قدماً. وهذا ما تخشاه تل أبيب. إذ لم يكن من السّهل إقناع طهران في التّراخي بمطالبها بشأن الحرس الثّوريّ على طاولة المُفاوضات النّوويّة في فيينا.

بهذه العمليّة الأمنيّة، لا تكون تل أبيب قد تجاوزت الخطوط الحمراء الأميركيّة. إذ لا تحمل دلائل مباشرة تدين تل أبيب، ولن تنشبَ حرب بسبب عمليّة اغتيال، والدّليل على ذلك ما حصل بعد اغتيال قاسم سليماني ومحسن فخري زاده.

إضافةً إلى ما سلف، لن يُقدم الموساد على عمليّة في هذا التّوقيت دون تنسيق مع الاستخبارات الأميركيّة كبديلٍ عن الضّربة الشّاملة.

تجدر الإشارة هنا إلى زيارتيْن منفصلتيْن قام بهما إلى واشنطن وزير الدّفاع الإسرائيلي بيني غانتس ومُدير مكتب الأمن القوميّ إيال حولاتا. ناقش المسؤولان في عاصمة القرار “الخطر الإيرانيّ والبرنامج النّوويّ والأهمّ العمليّات التي كان ينوي فيلق القدس شنّها ضدّ أهداف إسرائيليّة وأميركيّة” بحسب المزاعم الإسرائيليّة.

 

ماذا عن الرّد الإيرانيّ؟

أعلنت إيران من عن لسان رئيسها إبراهيم رئيسي، قبل أن يتوجّه من طهران إلى العاصمة العُمانيّة مسقط: “الثّأر لمقتل خدائي بالتأكيد سيكون بالمتناول”.

قبل رئيسي أعلنت وكالة “يونيوز” التّابعة للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني: “عمليّة الاغتيال ستُغيّر المُعادلات. كلّ من أمر ونفّذ سيدفع الثّمن غالياً. تجاوزت العمليّة كلّ الخطوط الحمراء”.

أمّا المُتحدّث باسم القوّت المُسلّحة الإيرانيّة أبو الفضل شكارجي فحمّل المسؤوليّة للولايات المُتحدة وإسرائيل: “أميركا والكيان الصّهيوني مسؤولان عن مراكز الإرهاب ورسم سياسات الأعمال الإرهابيّة في العالم. وعمليّة اغتيال العقيد خدائي تكشف كذب الأميركيين حول مزاعم حقوق الإنسان”.

في المرّة الأخيرة التي قرّرت إيران الرّد على عمليّة إسرائيليّة في الدّاخل، قُصِفَت مدينة أربيل العراقيّة.

هنا تختلف التوقعات حول مسرح الرّد الإيرانيّ وكيفيّة تنفيذه. خصوصاً أنّ أذرع إيران الرّئيسيّة في الجبهات المُتاخمة لفلسطين المُحتلّة قد أصيبت بضربة قاصمة باغتيال خدائي. فإيران بين خياريْن: إمّا ردٌّ قاسٍ يحفظ ماء الوجه مع مقتل القيادات النّوويّة والعكسريّة والأمنيّة الواحد تلوَ الآخر، أو ابتلاع الموسى والاحتفاظ بحقّ الرّد، كما في أغلب الأحيان.

المصدر : asasmedia

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى