أبرز الأخبار

انتخابات بما تيسَّر: خريطة التحالفات نسخة مكرَّرة و«المجتمع المدني» يُغنِّي على ليلاه

هي انتخابات نيابية بما تيسَّر. قبل أسبوعين على الموعد المقرَّر، تتكشَّف بشكل فاقع معالم العجز الحكومي عن إدارة الاستحقاق. يخرجُ وزير المال ليُعلن أنه يسعى إلى تأمين 380 مليار ليرة قبل 15 أيار/مايو. ويقول وزير الخارجية أنه بحاجة إلى «الكاش» للدفع للموظفين، فيما الإشكالات حول انتخابات المغتربين التي ستحصل في 6 و8 أيار/مايو أطلَّت برأسها وتُحاصره. يزفُّ لنا وزير الطاقة أن تقنين الكهرباء عن مراكز لجان القيد لن يتخطى 6 ساعات متتالية وستعوّضها المولدات، ويشتكي رئيس هيئة الإشراف على الانتخابات من افتقاد الهيئة للإمكانات اللوجستية والمالية للقيام بدورها الرقابي صوناً لنزاهة العملية الديمقراطية. العبء الثقيل سيُرمى على أكتاف الأجهزة الأمنية التي سيرفدها الجيش بعناصره لحفظ الأمن، والضغوط تعتمل صدور موظفي أقلام الاقتراع وأولئك المكلّفين بإدارة العملية الانتخابية. باختصار، فإن المكتوب يُقرأ من عنوانه: الانتخابات واقعة كيفما اتُفق، ولو شابتها النواقص في المعايير والمقوّمات والقدرات والأداء، فالهدف هو إنجازها كونها باتت تحت مجهر المجتمع الدولي الذي يُطالب بها ويُصرُّ عليها ويُهدِّد بمعاقبة مَن يُفكِّر بعرقلتها أو تطييرها. وحين تحصل، ستبصمُ عليها بعثات مراقبة دولية رغم يقينها أنها لا تستوفي شروط النزاهة وضمان المساواة وحرية الاقتراع وأمن الناخبين.
خريطة التحالفات يمكن قراءتها على عدة مستويات. المستوى السياسي الواسع يُشبه إلى حدٍ بعيد ذلك الذي طبع مراحل الانتخابات السابقة منذ 2005 وبروز معسكري 8 و14 آذار. ما عادتِ التسمياتُ ذاتها تُستخدم راهناً، غير أن الانقسام لا يزال يدور بين مؤيدي «محور إيران» وبين معارضي «المحور». ويخوض «حزب الله» على هذا المستوى معركته انطلاقاً من الحسابات الاستراتيجية لـ«المحور» بحيث يُريد من الانتخابات أن تُسجلَ له انتصاراً جديداً يخرجُ به إلى العالم ليقول إنه الأقوى في لبنان ويحظى بشرعية الناخبين وفق ما أفرزته صناديق الاقتراع والعملية الديمقراطية طبقاً لمعايير الغرب. وهو في إدارة هذه المعركة يتفوَّق على خصومه في المقلب الآخر، إذ هناك «مايسترو» يضبط الإيقاع بين الحلفاء في معسكره. فالأمين العام لـ«الحزب» السيّد حسن نصر الله يتولى شخصياً فكّ الألغام بين الحلفاء الأخصام، وجمع الأضداد، وترتيب الأحجام، وحلّ الخلافات المستعصية، ودفع الكل إلى الانتظام في سبيل تحقيق الانتصار ببُعده الاستراتيجي. انتصار سيخرج ليُهديه إلى روح قاسم سليماني الذي وقف يتباهى بعد انتخابات 2018 بأن حلفاء المحور نالوا 74 مقعداً، حاصدين الأكثرية في البرلمان المكوَّن من 128 نائباً.

معارك بالجملة

في معسكر نصر الله، معارك بالجملة بين شريكه في «الثنائي الشيعي» نبيه بري وبين جبران باسيل وريث ميشال عون. ولكن حين دقّت الساعة، توحَّد الاثنان في لوائح واحدة حيث الضرورة الانتخابية تُحتّم ذلك. جَمَعَ «مايسترو» المحور كلاً من الخصمين اللدودين سليمان فرنجية وجبران باسيل، المتسابقَين على كرسي رئاسة الجمهورية. طلبَ من حليفيه المسيحيّين تجميد خلافاتهما الرئاسية مرحلياً، ووَقْف الحرب النيابية في دائرة الشمال الثالثة التي تجمع زغرتا مسقط رأس فرنجية، والبترون مسقط رأس باسيل، والاتفاق على هدنة لحصر الأضرار، ولا سيما أن الدائرة الانتخابية نفسها تضمُّ أيضاً بشرّي معقل الخصم اللدود سمير جعجع، والذي يَشنُّ ضده سيّد «حارة حريك» حرباً ضروساً علّه يُضعفه مسيحياً لمصلحة «التيار الباسيلي» الذي يشهدُ تراجعاً شعبياً في ظل النكسات المتلاحقة التي لحقت بعهد «الرئيس القوي» والتي يُتوقع أن تنعكسَ على حجم تمثيله النيابي.
على المقلب الآخر، ليس هناك مِن «مايسترو» يُدير المعركة. في زمن قوى «الرابع عشر من آذار» كان زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري الرافعة السياسية للمعسكر السيادي، مع ما يُشبه «قيادة جماعية» حيث لكل من جعجع والزعيم الدرزي وليد جنبلاط خصوصيته ووزنه وموقعه الطائفي والشعبي المتقدّم على الحلفاء من أحزاب وشخصيات مستقلة كانت منضوية في جبهة موحّدة في وجه حلفاء المحور السوري – الإيراني.

ثنائية مسيحية

لم تعد معادلة الانتخابات السابقة تنسحبُ بكل تفاصيلها على المشهد الانتخابي اليوم. فمنذ انتخابات 2018 والقانون على أساس النسبية، طغت لعبة الأحجام على المعركة بين جعجع – باسيل. أساساً، ذهب الرجلان – جعجع وباسيل – إلى استنساخ «ثنائية مسيحية» على غرار «الثنائية الشيعية». وبات حلفاء «معراب» السياديون من أحزاب وشخصيات مسيحية يندرجون في خانة «الأضرار الجانبية». يُريد «الحكيم» أن يكون الزعيم المسيحي الأول، بكتلة مسيحية هي الأكبر، بحيث لا مجال لدعم حلفاء راغبين بأن يكونوا مستقلين عن كتلته. هو عطبٌ أدى إلى لوائح متعددة، فيما كان بالإمكان التشارك في لوائح موحدة. فارس سعيد، وميشال معوَّض، ومجد حرب، وحزب الكتائب، وغيرهم ممن كانوا في عداد «14 آذار» سابقاً يخوضون الاستحقاق فُرادى، فيما العناوين السياسية الرئيسية واحدة في المحتوى والمضمون.
حافظتِ «القوات» على التحالف مع الحزب «التقدمي الاشتراكي» في الجبل، حيث هناك حاجة للطرفين إلى هكذا تحالف سياسي، وحاجة إلى صون المصالحة الدرزية – المسيحية التي أرساها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير بعدما طوى الدروز والمسيحيون صفحة الحرب التي ضربت قلب لبنان. هو تحالف يلقى قبولاً لدى القواعد الشعبية تَعزَّز في ظل «انتفاضة الاستقلال» والالتقاء السياسي وسعي الطرفين إلى حماية المصالحة انطلاقاً من فهم مشترك لأهميتها. هو يتخطى «تحالف الضرورة» وثمّة مَن يعزو صونه إلى دور عربي ولا سيما سعودي.
على أن العطبَ الأساسي في تشتّت القوى المُعارِضة للمد الإيراني هو تعليق الحريري لعمله السياسي وخروجه وتياره من الانتخابات النيابية ترشحاً ومشاركة. اليافطة التي يرفعها «المستقبل» تحمل صورة الحريري مذيّلة بكلمتي «المقاطعة لعيونك». ينسحبُ الحريري من المعركة الانتخابية ترشحاً واقتراعاً من دون تقديم أي إجابات عن سؤال جوهري طرحته شخصيات تدور في فلكه السياسي قوامه: مَن يملأ الفراغ في الشارع السُّني؟ فـ«تيار المستقبل» كان لعقود هو التيار الأوسع انتشاراً وتمثيلاً للسُّنة، والحريري الأب تحوَّل إلى الزعيم السُّني الأول في حقبة ما بعد الطائف وورث الحريري الابن تلك الزعامة. لم يأتِ الحريري الأب من كنف عائلة سياسية تقليدية على غرار العائلات السُّنية في بيروت أو طرابلس أو صيدا التي طبعت الحياة السياسية في لبنان. حَمَلَ مشروع إعادة الإعمار بعدما وضعتِ الحربُ أوزارها بتسوية لبنانية-عربية- دولية. جاء رفيق الحريري باحتضان ودعم سعوديين، وهو الدعمُ الذي استمر مع الابن لسنوات قبل أن تنعكسَ تداعيات التسوية الرئاسية على علاقات الحريري السياسية مع الرياض.

بيروت تُواجه

خرجَ الحريري من الانتخابات النيابية من دون أي ترتيبات، كمن يترك السفينة لمصيرها في بحر هائج من دون قبطان. كثرت القراءات حول مرامي الحريري، منها إنه يقلب الطاولة في وجه الشركاء في التسوية الذين أخلّوا بها، ومنها أنه لا يملك المال لخوض الانتخابات، ومنها أنه يُرسل بانسحابه رسالة إلى المملكة التي تخلّت عن احتضانه ودعمه. مهما كانت تبريرات الحريري، فإن ثمة نتائج سلبية حاكمة لهذا الانسحاب، وهي التي دفعت بمجموعة من القيادات السُّنية التي خرجت من رحم «المستقبل» و«الحريرية السياسية» إلى التحرّك لعدم ترك الساحة فارغة، فالطبيعة أصلاً تكره الفراغ، فكيف إذا كانت هناك قوى تتنظر الفرصة للانقضاض سياسياً على الساحتين السُّنية والوطنية. تَقدَّمَ مشهدَ المواجهة الرئيس فؤاد السنيورة الذي كان من المعارضين للتسوية الرئاسية.
دَعَـمَ السنيورة لائحة «بيروت تُواجه» برئاسة خالد قباني في الدائرة الثانية حيث الثقل السُّني، ودَعَـمَ لوائح أخرى في طرابلس والبقاع الغربي. صاغَ تحالفاتٍ مع «القوات» و«الاشتراكي» والتي هي تحالفات طبيعية. لم ينفك عن التأكيد أنه لا يهدف إلى وراثة الحريري بل إنه يعمل لحفظ موقعه حين يعود. لكن كل ذلك لم يشفع للرجل الذي يُخوَّن من قبل «تيار المستقبل» ومؤيدي الحريري. هناك مَن يقول إن الحريري لا يُريد لقوى معتدلة تُشبهه بالتوجّه السياسي أن تملأ الفراغ لأنها ستُضعفه مستقبلاً، فيما اختطاف سنّة «8 آذار» وحلفاء «حزب الله» وإيران التمثيل السُّني سيجعل من عودة الحريري حاجة عربية من أجل استعادة التوازن.
كان يمكن للمعركة أن تكون أكثر تماسكاً لو لم ينتقل «المستقبل» إلى محاربة رفاق الأمس ضمن البيئة السُّنية مِن تحت الطاولة ومِن فوقها، مضافاً إليها الموقف السلبيّ تجاه «القوات» بفعل ما طبعَ العلاقة بين جعجع والحريري من تراكمات وشوائب في السنوات الأخيرة. بالأمس ارتفعت في بيروت صورة كبيرة للحريري، ومن خلفه جمهور عريض، كُتب عليها «موقفُك يُمثِّلُنا». حدثٌ يسبقُ انتهاء شهر رمضان وسط معلومات عن أن الحريري سيطلّ على مناصريه في خطاب أو رسالة بعيد الفطر. سيكون لإطلالته تأثيرها على جمهوره الذي لا يزال يشكل نحو 40 في المئة من الشارع السُّني.
في المشهد الانتخابي، هناك مرشحون سنّة قريبون من «المستقبل» يترأسون لوائح في بيروت بعيداً عن عباءة السنيورة، وهناك مَن هُم أصلاً خارج «الحريرية السياسية» هؤلاء لديهم قدرة على تأمين حاصل انتخابي والفوز وحيدِين، فيما لائحة «حزب الله» يمكنها، إذا كانت نسبة الاقتراع متدنية، أن تحصدَ أكثر من حاصلَين، فتُضيف إلى المقعدين الشيعيين مقعدَي الدروز والأقليات.
وما يزيدُ من خريطة التحالفات تعقيداً، الاشتباك الذي حصل بين «المجتمع المدني» والأحزاب المعارِضة للسلطة، في وقت كان يُمكن للمعركة أن تكون موحّدة ضد السلطة الراهنة التي يُشكِّل تحالف عون – حزب الله رافعتها. غير أن «المجتمع المدني» قطع الطريق على احتمال التعاون حين رفع شعار «كُلّن يعني كُلّن» معتبراً أن الأحزاب التي تحمل لواء المعارضة اليوم كانت جزءاً من المنظومة بالأمس. في تلك القراءة بعضاً من الحقيقة لكن ليس كلها، وتحمل كثيراً من التسطيح في مقاربة الأُطر الممكنة للتغيير، وفي تقدير القدرات والإمكانات وكيفية خوض المعارك السياسية. فليس تشتّت لوائح «المجتمع المدني» وإضعاف فرص وصول ممثليه إلى البرلمان، لخلق مسار تغييري، سوى نموذج عن ضياع فرصة كان يمكن أن تُشكِّل بداية واعدة.
هي انتخابات لا يُتوقع أن تحملَ مفاجآت. فليس هناك من «تسونامي تغييري». فوز معسكر «المحور» بالأكثرية لن يحملَ جديداً. خسارته إنْ وقعت هي الخبر، لكن في حسابات الورقة والقلم لا يبدو الأمر حاصلاً، ولا تبدو أغلبية الثلثين مضمونة له.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى