أبرز الأخبار

لا تغفروا لهم لأنّهم يدرون ما يفعلون

بالأمس أحيا المسيحيون الموارنة والكاثوليك على اختلاف كنائسهم جمعة الآلام، أو “الجمعة العظيمة”. وقد اعتدنا في لبنان تسميتهم “المسيحيّين الذين يتّبعون التقويم الغربي”.

في هذا اليوم من كلّ سنة يرتاد الكنائس أكبر عدد من المؤمنين على الإطلاق. ويوم أمس فاق هذا العدد كلّ السنوات السابقة. فمن جهة، وبعد سنتَيْ حجر بسبب “كورونا”، يتشوّق المؤمنون لإحياء ذكرى آلام المسيح. ومن جهة ثانية، يشعر اللبنانيون أنّ حالهم تشبه حال يسوع في هذا اليوم، يوم “الجمعة العظيمة”. لا بل إنّ حالهم أسوأ.

منذ أكثر من ألفَيْ عام تآمر على يسوع الكتبة والفرّيسيّون اليهود الذين ائتمنهم على الإعداد لمجيئه. وتآمر على اللبنانيين منذ سنوات مَن انتخبوهم وائتمنوهم على إدارة شؤونهم، فسرقوهم وأفقروهم وجوّعوهم وأذلّوهم وشرّدوهم في أصقاع الدنيا الأربعة. إنّهم أسوأ من اليهود الذين يدّعون مقاومتهم.

على طريق الجلجلة حمل يسوع صليباً واحداً حتى وصل إلى “مكان يسمّى الجمجمة” حيث صُلب. بينما يحمل اللبنانيون صلباناً كثيرة في انحدارهم نحو “الجحيم”.

في مسيرته، وجد يسوع سمعان القَيروانيّ الذي ساعده على حمل الصليب. بينما لا يجد اللبنانيون مَن يساعدهم على حمل صلبانهم. وهي ثقيلة، ثقيلة جدّاً.

صليب يسوع كان من خشب. بينما صلبان اللبنانيين من أشباه بشر. صلبانهم حكّامهم. هؤلاء ليسوا بشراً. فالإنسان يشعر، يحزن، يرأف، يشفق، يساعد… بينما هؤلاء لا يشعرون بما يعيش الشعب، ولا يحزنون لِما يصيبه، ولا يرأفون بحاله، ولا يُشفقون عليه، ولا يساعدونه. على العكس من ذلك، يزيدون أحماله أثقالاً.

 

على طريق الجلجلة تعرّض يسوع للجلد بالسَوط فقط. بينما يُجلد اللبنانيون كلّ يوم بالفقر والجوع، بالكهرباء المقطوعة وبفواتير المولّدات الموجعة، بالبطالة المُتفشّية وبالرواتب التي فقدت قيمتها. يُجلدون بعجزهم عن توفير أقساط أولادهم في المدارس والجامعات، وبعدم قدرتهم على شراء الدواء لمرضاهم، واستحالة إدخالهم المستشفى… ويُجلدون كلّ يوم بإذلالهم للحصول على ما تبقّى من ودائع لهم سرقها الحكّام ومصرف لبنان والمصارف بالتكافل والتضامن.

اقتسام ثياب اللبنانيين

يوم “الجمعة العظيمة”، وبعدما عرّوه وصلبوه، اقتسم الجنود ثياب يسوع فيما بينهم واقترعوا على لباسه. ومنظومة الجلّادين عندنا، بعدما عرّوا الشعب اللبناني من كلّ شيء، اقتسموا مدّخراته وخيرات دولته فيما بينهم، وها هم ينظّمون الاقتراع على مستقبله ومستقبل أولاده.

يوم أمس صدح صوت فيروز الملائكي منشداً كلمات الليتورجيا البيزنطيّة الرائعة: “اليوم عُلّق على خشبة الذي علّق الأرض على المياه”. ويصرخ اللبنانيون كلّ يوم: لقد عُلّقنا بين حاضر مُدمِّر ومستقبل أسود. غالبيّتهم تخلّوا عن تعلّقهم بالأرض. جلّادوهم كفّروهم بها. دفعوا بهم إلى الإبحار فوق المياه هرباً من الجحيم الذي وعدهم به “رئيس الجلّادين”.

اليوم السبت، بعد “الجمعة العظيمة”، يسوع الإله قابعٌ في الجحيم. قضى فيه ساعات. نزل إليه ليُقيم معه الأموات. إنّه الإيمان المسيحي. العديد من الأيقونات والرسوم الدينيّة في الشرق والغرب تُجسّد هذه المشهديّة.

 

اللبنانيون يقبعون في الجحيم منذ سنتين، وسيبقون فيه لسنوات في مشهديّة غير مسبوقة في تاريخ البشريّة. هذا ما عبّر عنه أكثر من مسؤول دوليّ وأمميّ. لا شكّ ستُدوِّن هذه الحقيقة التاريخيّة أقلام المؤرّخين. وستُجسّد ريشة الرسّامين مشاهد الأطفال المَرميّين في مستوعبات القُمامة، والشيوخ الباحثين فيها عمّا يقتاتون به، والشباب اليائس في طوابير على أبواب السفارات، والمُصابين المائتين على أبواب المستشفيات، والأولاد المُتسرّبين من المدارس ليستَعطوا عند تقاطع الطرقات…

بيلاطس اللبناني

بالأمس وقف “رئيس الجلّادين” أمام يسوع المصلوب. على غرار بيلاطس، غسل يديه من مأساة الشعب اللبناني قائلاً “ما خلّوني”. ووقف إلى جانبه صهره أحد أبرز جلّادي الشعب اللبناني. هذان الرجلان تحالفا منذ سنوات مع “الجلّاد الأكبر”، مرشد الجلّادين، الذي يقتل بسلاحه اللبنانيين ويمنع عنهم أيّ فرصة خلاص من الداخل أو من الإقليم أو من العالم. وها هما يتحالفان انتخابياً مع “الجلّاد الأوّل” ليربحا في الانتخابات النيابية المُقبلة. فهما ومَن معهما في المنظومة الحاكمة يستهزئون بالشعب اللبناني كما استهزأ “رؤساء الكهنة ومعلّمو الشريعة والشيوخ” بيسوع.

أيّها اللبنانيون، صحيح أنّ يسوع كان رسول سلام. ولكنّه كان ثائراً أيضاً. فهو دخل عليهم بالسوط وطردهم من الهيكل لأنّهم حوّلوه مغارة لصوص. وهل من لصوص أعظم من هؤلاء اللصوص. إلى متى سنتركهم يدنّسون الهيكل اللبناني؟ ألم يحِن الوقت لطردهم؟

 

يسوع ثار على الموت. انتصر عليه. وقام في اليوم الثالث. وما لم تقُم ثورة فعليّة فلن يكون للبنان وللّبنانيين لا “سبت نور” ولا أحد قيامة.

بالأمس من على الصليب قال يسوع لأبيه السماويّ: “إغفر لهم لأنّهم لا يدرون ما يفعلون”.

أمّا أنتم، فلا تغفروا لهم، لأنّهم يدرون ما يفعلون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى