أبرز الأخبار

نساء رياض سلامة

رياض سلامة محاط بالنساء. لا يعنينا هنا إن كان حاكم مصرف لبنان “زير نساء”، أم لا. فهذه أخبار قديمة، عمرها آلاف السنين: السلطة والمال، والمحظيات في فُلكهما. لكن قضية سلامة، التي هي قضية كارثة وطنية من الطراز الأول، هي أيضاً ذات بُعدٍ نسائي، بالمعنى السيسيولوجي العميق، كما على طريقة الصحافة الصفراء. وهو الأمر الذي جعل جانباً كبيراً من فضائح سلامة، المتكشفة تباعاً، تجد سبيلها إلى صفحات ومواقع منشغلة في الأساس بنميمة أهل الفن وعارضات الأزياء، وتحتل صدارتها صُور وفيديوهات من النوع المسمّى “طُعم النقر” الذي يُسيل لعاب القارئ لفتح الرابط الالكتروني والتلذذ بمحتواه المشبّع بفاكهة العيون.

وإن كان الوصف الأخير ينطبق على مُساعدة سلامة ويده اليمنى، ماريان حويك، وعلى “جميلته” الممثلة وإنفلونسر الرفاهية، ستيفاني صليبا، والسيدة الأوكرانية المقيمة في فرنسا حيث تسَرّب من التحقيقات أنها “أمّ ابنته”، آنا كوزيكوفا… فإنه وصف لا يختزلهن إطلاقاً. فتلك النساء متمكّنات، شريكات، وفاعِلات. يبِعن، ويشترين. يحوّلن الأموال بالملايين، وتقترن أسماؤهن بعقارات وشركات ومقتنيات باهظة الثمن، ليس المهم هنا كيف وصلت إليهن، بقدر ما إنها تدلّ على أسلوب حياة، وحتى مِهَن، أشبه بحيوات مؤثرين في عوالم السياسة والمال.. بما في ذلك النفوذ المُظلّل بالشبهات.

ويشتمل المشهد أيضاً على نساء يُجابهن حاكم مصرف لبنان من ضفة الخصومة والمُلاحَقة، يثرن غيظ المهندس المالي الأكبر. هن القاضيتان اللبنانيتان غادة عون وهيلانة اسكندر، القاضية الفرنسية أود بوريزي، وأخيراً وليس آخراً طَليقته ندى سلامة. وهذا ما يقود إلى سؤال إشكالي المعاني والدلالات، وليس من النوع الذي نصادفه كل يوم: هل نحن أمام قضية فساد ذكورية، حيث يبدو رياض سلامة سلطاناً وسط “حرملك” من المُقرّبات والعدوّات؟ أم أنها قضية، على العكس من ذلك، تظهر فيها النساء في مواقع التمكّن والنَدّية، الشراكة والمُعاوَنة؟ هل حقق الفساد، هذه المرة، ما لم تحققه الديموقراطية والشفافية والحوكَمة النظيفة؟ وهل دُحضت، نهائياً، الفكرة القائلة بأن النساء، إن بلغنَ مواقع القرار والسلطة، فالأرجح أن يكُنّ أقل فساداً وأكثر ديموقراطية وحقّانية من الرجال؟

في تقرير للبنك الدولي، نُشر العام 2021، بعض الإجابات المُقنِعة، إذ تسرد تاريخاً موجزاً لفكرة التفوق الأخلاقي الأنثوي التي باتت تفتقر إلى أعمدة صلبة تقوم عليها. فبحسب التقرير، السبب الذي يجعل الحكومات والسلطات ذات العدد الأكبر من النساء، أقل فساداً، هو أن هذه الحكومات تتّصف أيضاً بمظاهر أخرى للحكم الديموقراطي، كالصحافة الحرة، وسيادة القانون، والانتخابات الحرة والنزيهة.. وهذا ما يقول الكثير عن الحالة اللبنانية.

وبحسب التقرير نفسه، “في ظل الظروف المناسبة، فإن النساء والرجال معرضون بشكل متساوٍ للفساد”. وإذا كانت دراسات قد بيّنت أن الشركات المملوكة للنساء، أقل إدانة بدفع الرشاوى، فهذا ليس لأن النساء أكثر ميلاً، بشكل عضوي وبُنيوي، لمواجهة ترتيبات التواطؤ والزبائنية والجرائم المالية. بل يرجع السبب في ذلك إلى أنه من غير المرجح أن تكون النساء عضوات في شبكات المحسوبية القائمة، التي يغلب عليها الذكور، وغالباً ما لا يثق فيهن أصحاب القرار في تلك الشبكات. فالأعراف الاجتماعية للجماعات التي تشارك في نشاط غير قانوني أو مشكوك فيه أخلاقياً، تراهن على مواصفات وخصائص معينة لعضويتها، مثل السرّية وإمكانية التنبؤ بالخطوات التالية للأشخاص الذين تُدخلهم إلى دوائرها ومنظوماتها. وهذه خصائص تركن إلى قواعد سلوك ما زالت خاضعة، إلى حدّ كبير، للتنميطات الجندرية. أي، وباللغة الشعبية المتداولة: النساء لا يحفظن سرّاً، وردود أفعالهن غير قابلة للتوقّع المنطقي والعقلاني، وبالتالي لا يعوّل عليهن في سيستم الفساد.

فهل أحدث رياض سلامة خرقاً “تقدمياً” هنا؟… أم أن النساء المنخرطات في قضيته، معه وضده، هن اللواتي فرضن معادلتهن الجديدة؟ وكيف نقرأ أن مُعسكَري النساء، في القضية هذه، منقسم جيليّاً أيضاً، بحيث أن النساء الأكثر شباباً هنّ حليفات المتهم السبعيني المتمتع (حتى الآن) بنفوذ وشبكة علاقات حمائية، فيما النساء الأكبر سناً هن في الموقع المضاد لسلامة؟ هل من الممكن تطبيق دراسة حالة جندرية، تحت عنوان نساء متمكّنات ضمن نُظُم فساد، في ظل تراتبية عُمرية أقرب إلى الأبوية؟ هل تشهد فضاءات الفساد ثوراتها الجندرية هي أيضاً؟!

قد نفكّر في العالم الراهن ومتطلبات التكنولوجيا والبزنس المعاصر، بحيث أن فساداً في هذا المضمار يحتاج فئة عمرية شابة، تماماً مثل مضماره القانوني. قد نفكّر أيضاً، ومن دون التقليل من دور الارتباطات السياسية والحزبية لنساء الجبهتَين، في أن امرأةً تجابه سلامة بالقضاء، لا بد أن تكون قد قضت من العمر ردحاً لتبلغ موقعها هذا، وكونها من جيله، فهي تنافسه وتعاركه في مساحة مشتركة. في حين أن شابّات يقضمن مساحتهن من مساحته السابقة على ولادتهن، وهي الوحيدة المتوافرة لـ”طموحات” في حيز الشهرة والأموال.

الصورة راهناً، أو بالأحرى المرئي منها حتى الآن، أشبه بالديستوبيا النسائية. ولا يمكن إنكار خيالات الديستوبيا واحتمالاتها وعلاقات قوتها شديدة الكثافة والغنى من قبيل ما يقترحه الأدب وتَعِد به السينما.

رشا الاطرش المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى