أبرز الأخباربأقلامهم

تشريع سرقة التعويضات والمعاشات التقاعدية

 

فؤاد بزي – الأخبار

كانت أجور العاملين في القطاع العام تبلغ 6447 مليار ليرة في قانون موازنة 2018، وها هي اليوم تُحدّد بـ30486 مليار ليرة في مشروع قانون موازنة 2023، أي بزيادة 3.7 أضعاف. في المقابل، تشير أرقام الإحصاء المركزي إلى أن الأسعار تضخّمت بـ 4111%، أي بزيادة 41 ضعفاً، وسعر صرف الدولار ارتفع من 1507.5 ليرات إلى 89200 ليرة، أي بزيادة 5817%، أو 58 ضعفاً. كل هذه الزيادات التي حصل عليها العاملون في القطاع العام على مدى السنوات الأربع الماضية لتعويض ما فقدوه من قدرة شرائية بسبب التضخّم، ما زالت بعيدة جداً عن الواقع، لأن القوى الحاكمة في لبنان تركّز سعيها على الهروب من التعامل مع الأزمة مسجّلة عجزاً وتخاذلاً غير مسبوقيْن في الإدارة والمسؤولية. بالنسبة إليها، لطالما كان القطاع العام بمثابة آلية زبائنية لتوظيف الأزلام والمحاسيب بدلاً من خلق فرص العمل لهم عبر تعزيز نمو النشاط الاقتصادي، وهو أيضاً آلية لنهب المال العام بدلاً من استعمال الأدوات الضريبية لإعادة توزيع الثروة وتوجيه الأموال العامة والخاصة نحو استثمارات ذات طابع اقتصادي واجتماعي – تنموي. وفي عزّ الأزمة، منذ الإفلاس وجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت حتى اليوم، تبيّن أن الدولة لا تعمل طالما أن القطاع العام ليس بخير، لكن بدلاً من تعزيز فعاليته، لاحت أمام هذه القوى فرصة لتدمير ما تبقّى منه وتصفيته. فمن دون زيادات مناسبة لاذ العاملون في القطاع العام، من ذوي الكفاءات المهنية والتقنية، بالهرب نحو القطاع الخاص المحلّي بحثاً عن أجور بالدولار النقدي، أو بالهجرة إلى الخارج. ثم تُرك الباقون يواجهون مصيراً أسودَ لأن رواتبهم لم تعد تغطّي كلفة انتقالهم من مقرّ السكن إلى مقرّ العمل، فالتجأوا إلى العمل يوماً أو يومين في الأسبوع. ساومتهم السلطة على زيادات بخسة تحت مسميات مستحدثة على «معجم الاقتصاد»، مقابل العمل ثلاثة أيام، إنما من دون أن تضع نهاية للإفلاس المالي والمصرفي أو أن ترسم سقفاً يمكن اللجوء إليه حين تصل موجة التضخّم التالية… وبالفعل هذا ما حصل، استمرّت الأجور بالخسارة، بينما يركّز مسؤولو الدولة على تكرار الجرائم المرتكبة سابقاً، أي تعزيز الإيرادات الضريبية. خسائر الأجور، وخصوصاً للعاملين في القطاع العام هي أكبر الخسائر، إذ إن هؤلاء لم يتم تعويضهم بشكل شبه مطلق. القوّة الشرائية لأجورهم تساوي اليوم 12% من القوّة الشرائية لما كانت عليه الأجور في عام 2018. ينتظرهم المزيد، لأن القوى الحاكمة لم تقرّر بعد أن تضع حداً لهذه الأزمة وأن تعالجها من جذورها، بل ستواصل سياسة الترقيع والانحدار أكثر فأكثر، وأحد أبواب هذا الترقيع أن تسرق معاشاتهم التقاعدية عبر دسّ مادتين في الموازنة تمنعان من اعتبار الزيادات الممنوحة للعاملين في القطاع العام زيادات غلاء معيشة، وبالتالي لن تُحتسب في تعويضات نهاية خدمتهم وفي معاشاتهم التقاعدية. هذه ليست سوى بداية لما يمكن أن تقوم به قوى السلطة. التضحية الكبرى آتية وهي ستكون على حساب المتقاعدين أيضاً الذي ستُسرق معاشاتهم أيضاً لأن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يريان في نظام التقاعد مزراباً كبيراً، ولا يعتبرانه تكافلاً من المجتمع مع الأكبر سناً فيه.

لا تزال عقلية «المحاسب» تسيطر على الدولة اللبنانية. الموازنة بالنسبة إليها إيرادات ونفقات فقط. والموظف عبارة عن «آلة استهلاك لا تقدّم أي منتج». يأتي ذلك، رغم أن سنوات الأزمة وما رافقها من إقفالات وإضرابات شلّت القطاع العام، أثبتت عدم صحّة المقولات التي رُوّج لها عن ضعف إنتاجية الموظفين في القطاع العام، إذ إن إقفال الدوائر الرسميّة، مثل العقارية، النافعة، والمالية بمختلف مديرياتها أدّى إلى شلل وتعطيل للحياة العامة وللنشاط الاقتصادي العام، فضلاً عن أنه أفقد الدولة إيرادات مهمة. لكن، بحسب مواد موازنة عام 2023، وتحديداً المادتين 80 و81، يبدو أن قوى السلطة تسعى لتدمير جهازها الإداري، وتهجير كل الكفاءات منه. بل ربما هي تهدف إلى منع الشباب من مجرّد التفكير في التقدّم للوظيفة العامة. فمثل هذه المواد التي تُدرج في الموازنة العامة، تضرب مكتسبات عشرات السّنين للموظفين وتسرق حقوقهم المنتجة بفعل قوّة عملهم المتراكمة على مدى السنوات. فالمادة الثمانون من موازنة 2023 «لا تسمح بإدخال أيّ زيادة على الرواتب وملحقاتها ضمن أساس الراتب» وتمنع «احتساب قيمة الزيادات ضمن الراتب، ولو نصّ النظام الداخلي والمالي والإداري لأي جهة في الدولة على خلاف ذلك». أما المادة الحادية والثمانون، فتجعل من الزيادات على رواتب الموظفين «بدلاً مقطوعاً»، لا يتغيّر بحسب الوظيفة أو الرتبة. إقرار هذه المواد يعني سرقة تعب الموظفين، ومصادرة أموالهم التقاعديّة التي جمعوها خلال سنوات الخدمة، ما ينبئ بسلسلة من الإضرابات، والمزيد من التعثّر في عجلة الإدارة العامة.

19 ألفاً

هو عدد الوظائف الشاغرة في الإدارة العامة حتى نهاية السنة الماضية من أصل 27 ألف وظيفة في ملاك الإدارة العامة

تخالف المادتان 80 و81 من مشروع موازنة 2023 مبادئ استقرّ عليها الاجتهاد القانوني منذ عقود، وهي: «الاستمرارية، العمومية والثبات». هي المبادئ نفسها التي تحاول الحكومة إزالتها عن زيادات غلاء المعيشة التي منحتها لموظفي القطاع العام. فالزيادات التي مُنحت كانت محتسبة على أساس الراتب، أي أنها جزء لا يتجزّأ منه، وهي دُفعت بشكل مستمرّ وبقيمة ثابتة على فترات زمنية معروفة تطوّرت بالوتيرة نفسها أيضاً. ودُفعت هذه الزيادات لكل الموظفين ضمن قطاع واحد وتبعاً للقوانين التي ترعى كل إدارة ومؤسسة عامة. الحكومة اعترفت بكل هذه الزيادات بشكل واضح لا لبس فيه، حتى لو سمّتها «مساعدات اجتماعية»، أو «تعويضات مؤقتة»، إذ كان الهدف منحها بهذا الشكل ريثما يتم تصحيح الأجور بشكل جذري. لكن في المجمل، لم يمر شهر منذ تشرين الأول 2021 من دون دفع مبالغ إضافية على الرواتب والمعاشات. دُفعت هذه المبالغ 22 مرّة، وقامت الحكومة بتعديل الزيادات على الرّواتب والمعاشات 4 مرّات خلال السنوات الثلاث الماضية، ما يؤكّد أحقيّة الموظف والمتقاعد في إدراج الزيادات في أصل راتبيهما.

وقد شملت هذه الزيادات كل موظفي ومتقاعدي الإدارة العامة، بمختلف فئاتهم ومسمّياتهم الوظيفية، وأضافت الزيادات على أساس الراتب، نصف راتب في الفترة الممتدة من تشرين الثاني 2021، حتى حزيران 2022. وراتباً إضافياً من تموز 2022، إلى أيلول 2022. ومن ثمّ أصبحت راتبين فوق الراتب الأساسي بموجب قانون موازنة عام 2022، وصولاً إلى 7 رواتب منذ أيار 2023. فالإدارة العامة حصلت على كل الزيادات بشكل موحّد، والأمر نفسه ينطبق على الأساتذة، وسائر المؤسسات العامة التي تحصل على تحويلات من الموازنة حصلت أيضاً على الزيادات بعد إقرارها في مجالس الإدارة الخاصة بها، أو بالاتفاق بين وزارة الوصاية ووزارة المال. أي كل هذه الزيادات جرت بالطريقة التي يتم بها تعديل سلسلة الرتب والرواتب للعاملين في القطاع العام. وبالتالي تنطبق المبادئ الثلاثة على هذه الزيادات.
«لو مرّت هذه المواد في الحكومة، لأُقرّت كما هي، فالمجلس النيابي لا يمكنه زيادة الأرقام أو تعديلها»، يقول النقابي محمد قاسم. وأخطر ما يجري في حال مرور هاتين المادّتين هو «قطع طريق الاعتراض على الموظفين لدى مجلس شورى الدولة». فوفقاً لمبدأ «الاستمرارية»، يمكن لأيّ موظف تقديم دعوى على الدولة اللبنانية لدى الجهة القضائية الأخيرة، والتي ستحكم بحقه في جعل هذه التقديمات من صلب الرّاتب، ولكن في حال وجود نص قانوني يمنع، لن تصدر هكذا أحكام، وستتمكن الحكومة من الالتفاف على حقوق موظفيها وتركهم عرضةً لـ«لا استقرار، والمزاجية في الدفع، ما يحوّلهم من موظفين في القطاع العام إلى ما يشبه العمل لدى القطاع الخاص، ومن دون الالتزام بالقوانين حتى».
حتى الضّرر الواقع على الموظفين ليس واحداً، بحسب مدير الصيانة والاستثمار السّابق في مؤسسة كهرباء لبنان غسان بيضون، «الخاسر الأكبر من يخرج من الخدمة إلى التقاعد خلال هذه الفترة». فهو سيصبح مضطراً لاختيار المعاش التقاعدي على تعويض نهاية الخدمة، فالراتب الأخير لن يكون المضاعف 7 مرّات، بل ما كان عليه قبل عام 2019، وفقاً لسلسلة الرّتب والرواتب الأخيرة. في حين قد يتمكن البعض الآخر من الموظفين من «انتظار الحل»، يقول بيضون، فـ«في الفترة السابقة قبل إقرار السلسلة الحاليّة، كانت هناك سلفة غلاء معيشة للموظفين، وأعيد دمجها في أصل الراتب بعد عام 2017 وإقرار السلسلة الحالية». ولكن، يبقى السؤال كم ستطول مدّة الانتظار هذه؟ وخلال هذا الوقت، من سيبقى من الموظفين في الجهاز الإداري للدولة، ومن سيغادر؟
والموظف الموجود في الخدمة حالياً ليس بمنأى عن الخسائر. فمع تدهور سعر الليرة أمام الدولار منذ بداية الانهيار، لا يزال أساس راتبه ثابتاً، وأي احتساب لاحق لقيمة الراتب عند الخروج للتقاعد، ولو بعد عشرات السّنوات سيكون على أساس راتب لا تصل قيمته إلى 100 دولار. على سبيل المثال، يخرج أستاذ التعليم الثانوي إلى التقاعد، بعد أربعين سنة خدمة على أبعد تقدير، على الدرجة 51 من سلّم الرتب، بأساس راتب لا يزيد على خمسة ملايين ليرة، وعند احتساب معاشه التقاعدي لا تُحتسب الزيادات الأخيرة على راتبه على أنّها حقّ له، بل مساعدة تستطيع الدولة حسمها ساعة تشاء.

الضريبة المضاعفة 30 مرّة ستُدفع على المساعدات المقرّة على الرّواتب

كما وتتمثل «لا عدالة» الدولة أيضاً في المادة 43 من الموازنة نفسها، إذ تقوم بمضاعفة الرسوم 30 مرّة، وتصيب بذلك، بالإضافة إلى المواطن، الموظف الذي لم يتضاعف راتبه سوى 7 مرات. وهنا يستغرب قاسم عدم تعديل رواتب موظفي ومتقاعدي القطاع العام بشكل يحفظ من كراماتهم، رغم أنّ وزير المالية تكلّم عن وجود إيرادات جيّدة من الجمارك موّلت دفع الرواتب خلال الأشهر الماضية. ويلفت قاسم إلى «أنّ الضريبة المضاعفة 30 مرّة ستُدفع على المساعدات المُقرّة على الرّواتب»، ويحذّر من «أنّ موازنة عام 2024 ستكون مبنيّة على أساس الأرقام المُقرّة في موازنة 2023 التي لن تخدم سوى لأشهر قليلة، وبالتالي سينسحب الإجحاف على الموظفين عاماً آخر».

بدع الموازنة
يرى الأمين العام لـ«مواطنون ومواطنات في دولة» شربل نحاس «أنّ المادتين الثمانين والواحدة والثمانين، ما هما إلّا استمرار لنهج الزعبرة القديم». ويتخوّف نحاس من «رحيل الموظفين عن الوظيفة العامة، وإحجام الشباب عن التقدّم للعمل في القطاع العام». ويرى في التصرّفات الحكوميّة «تصفية بشريّة للإدارة التنفيذيّة، أي الإدارة العامة، وبشكل سريع». أمام هذا المشهد، لا يجد نحاس حلاً إلّا في «المواجهة السياسيّة الشاملة، وإقامة دولة قادرة». في المقابل، لا يعوّل على «القانون والقضاء» بشكلهما الحالي في لبنان، فالبدع في الموازنة «مخترعة منذ أيام موافقة الاتحاد العمالي العام على رفض دمج الأجر ببدل النقل عام 2012، وإدخاله في حسابات الضمان، رغم أنّ الأمر مخالف لكلّ المعاهدات الدوليّة. والخرق الذي تمّ يومها يتوسّع، ويُعتبر حلالاً».

النهب مستمرّ
«أشهر الإضراب لن تنتهي قريباً، فالحكومة لا تلتزم بوعودها للموظفين بكلّ فئاتهم»، يقول النقابي محمد قاسم. إقرار الموازنة بشكلها الحالي هو «نهب للموظف المقبل على التقاعد، ولا سيّما لمن يطلب تعويضاً لنهاية الخدمة لا معاشاً، إذ تُحسم منه 6 رواتب، ويُحتسب التعويض على أساس راتب واحد».
إذاً، «لا بدّ من المواجهة»، يضيف قاسم، و«يجب التحرّك سريعاً ودعوة الجمعيات العموميّة لإسقاط كلّ المطروح، وتوفير اعتمادات كافية بغية الوصول إلى تصحيح حقيقي للأجر، ودمج المساعدات في صلب الرّاتب، لإنصاف المقبلين على التقاعد». كما يستهجن قاسم تصريحات وتصرّفات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي «يرفض إضافة أيّ ضرائب جديدة على المواطنين، في المقابل يوافق على مضاعفة الضرائب الحالية 30 مرّة»، ويصف هذه الأفعال بـ«عمليات التجميل لتكبيد المواطنين أعباء الأزمة».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى