أخبار محلية

سجن الأحداث بلبنان: 200 قاصر محشورون بزنزانات المرض والمخدرات

ألمدن

وجوه متخمة بالهموم وآثار المرض، لهجات مختلفة تتقاطع عند الشتم والشكوى، سحنات يعلوها الملل واليأس، ونادرًا ما تستبشر بانفراجة أمل، أجساد ضامرة أعياها الإهمال وسوء التغذية وهدها الانتظار المقيت، أمراض يتشاركها الإنسان والجرذ والحشرات على حدٍّ سواء، رائحة عفن ونفايات وتبغ نفاذة، اكتظاظ خانق، ونزلاء لا يملكون سوى حكاياتهم. هذا باختصار واقع السجون في لبنان، وإن شئنا الخوض فعليًا في عمق المشهد، فإن وصفنا هنا مقتضبٌ وبليغ إلى حدٍّ ما. فإذ كان جزاء المخالف والجاني حبسه لتأهيله وتقويمه وإيداعه لاحقًا في المجتمع كمواطن عاد صالحًا، فإن هذا الجزاء في لبنان هو حكم غير مباشر بالإعدام النفسي والجسدي البطيء للمحكوم، فضلاً عن الموقوف إلى إشعار آخر.
وفي حين أن هذا الواقع يستفحل في سجن معين بدرجات أشرس من نظيره في منطقة أخرى، فإنه حاليًا منظور ومسلم به في جميع السجون على امتداد الأراضي اللبنانية، وليس سجن الأحداث في رومية، أحسن حالاً من باقي هذه السجون، بل إن هذا الواقع يتخذ وتيرة أشد وعورةً على الموقوفين القُصّر، الذين لا تتجاوز أعمارهم الثامنة عشر عامًا ولا تقل عن الثالثة عشر، شباب يافعون لا يملكون من طفولتهم سوى ذكرى الجرم المشوشة التّي أطاحت بسنوات نشأتهم وتربيتهم الأولية وشوهتها، يرزحون تحت أعتى الظروف القاهرة واللاإنسانية، عوضًا عن التأهيل والمساعدة المطلوبة.

أطفال على تماس مع القانون
يبلغ عدد الموقوفين في سجن القاصرين الذي خُصص له الطابق الثالث في مبنى الأحداث في سجن رومية المركزي، والموقوفات في مركز المبادرة، مع الموقوفين في المخافر والثكنات، حوالى 200 موقوف ومحكوم من الجنسيات اللبنانية والسّورية والفلسطينية وغيرها. هذا العدد شهد ارتفاعًا بارزًا في السنوات الأخيرة. وفي حين تتعدد المسوغات لهذا الارتفاع المُطرد، تقلّ الاقتراحات في مضمار الحلول الجذرية لهذه الأزمة الحقوقية والاجتماعية والانسانية.
يعيش هؤلاء الأطفال الذين هم على تماس مع القانون اليوم، أسوأ الظروف الصحية والنفسية، غارقين في الإدمان على المخدرات المهربة إلى داخل زنزاناتهم، كما تُشير مصادر “المدن” الأمنية في رومية، كسائر الموقوفين في السجون اللبنانية، حيث تنتشر في صفوفهم الأمراض الجلدية والتنفسية والمعوية والأوبئة المستجدة كالكوڤيد-19 والكوليرا، بسبب الاكتظاظ وسوء التغذية والإهمال بشروط النظافة للنزلاء ومحيطهم. هذا وناهيك بتعثر وشلل أدوات التربية والتعليم المطلوبين لتأهيل هؤلاء المحتاجين لها في سنهم، وانسداد أفق الإعداد المهني الذي يؤهلهم لاحقًا للاندماج في المجتمع كعمال ومتعلمين ومهنيين ومواطنين. هذا من دون الحاجة لذكر النسبة الهائلة من غير المحكومين حتى الآن والتّي تنتظر فكّ الإضرابات المتلاحقة تارةً وتأمين الغرامات المستوجبة عليهم من قبل أهلهم تارةً أخرى.

رواية أمّ
وهنا تُشير م.ر. والدة أحد الموقوفين في سجن الأحداث في حديثها مع “المدن” واصفةً معاناتها في مساعدة ابنها، الذي لم تره منذ أشهر بسبب صعوبة التنقل من منزلها في عكار نحو رومية. وصعوبة تأمين الأموال المطلوبة لمساعدته في الداخل، فضلاً عن دفع الغرامة المستوجبة عليه. قائلةً: “ابني لا يزال منذ ثلاث سنوات موقوفاً في سجن الأحداث في رومية، ولم يخضع لأي جلسة محاكمة حتى الآن، أُوقف وهو يبلغ من العمر 15 سنة، واليوم بات على مشارف السن القانونية والتّي تستوجب نقله إلى سجون الكبار. حاولت مساعدته عبر التواصل مع عدّة جمعيات حقوقية، والتّي سهلت لي توكيل محامية له، والتّي استحصلت لاحقًا على قرار بإخلاء سبيله، لنُصدم لاحقًا بظهور ثلاث دعاوى متعلقة بالمخدرات والسّرقة والهجرة غير الشرعية من حيث لا ندري. وإن كنت أقرّ أن ابني حاول الهجرة غير الشرعية سابقًا نحو تركيا عبر المراكب. هذا فيما لا يزال ابني عالقًا في سجن الأحداث في حالة صحية ونفسية مضطربة، بانتظار محاكمته عند فكّ اعتكاف القضاة، وتأمين الغرامة التّي تبلغ عشرين مليون ليرة، والتّي لم أتمكن من تأمينها وحدي بسبب ظروفي المادية المتعثرة”.
تعقيبًا، ذكرت نائبة رئيس تجمع أهالي الموقوفين في السجون اللبنانية، رائدة الصلح، أن “حال زنازين الأحداث ليس مختلفًا عن باقي الزنازين في رومية، خصوصاً أن المبنى المخصص لهم يشغله موقوفون من الراشدين ومن مختلف الأحكام والجرائم، وهم جميعًا يعيشون المعاناة ذاتها في المأكل والمشرب الملوثين، وانعدام الطبابة والاستشفاء والنظافة العامة. بل وعادةً ما كان هناك جمعيات تقيم لهم أنشطة تربوية وتعليمية، لكن هذه الأنشطة اختفت تدريجيًا باستثناء بعض المحاولات المتخبطة للاستمرار بها، عبر إقامة جلسات رسم. أما أهالي الموقوفين في قسم الأحداث فإنهم ينتظرون فك الاعتكاف وإصدار الأحكام بحق ذويهم كسائر أسر الموقوفين”.

لا تأهيل
وإن كان هذا الملف تحديدًا محط جدل اجتماعي وتربوي وأخلاقي وعرضة للتجاذبات السّياسيّة والتحامل الاجتماعي، فإن غالبية الجدالات فيه تنصب دائمًا على كواهل الموقوفين وذويهم، الذين يُحاصرون بنظرة دونية ولوم مستمر وفجّ، من دون التركيز على إيجاد وسائل للحدّ من ارتدادته أو حتّى لاستباقها.
وفي هذا السّياق تشرح أميرة سكر رئيسة اتحاد حماية الأحداث في لبنان، في حديثها مع “المدن” سبب تعثر التأهيل وتأخر الحلول لهذا الواقع المأزوم مشيرةً إلى “إن تأهيل الأحداث يحتاج لفريق عمل متخصص، وأدوات خاصة، تشمل المناهج والوسائل والتقييم النوعي لميول المتعلم ونمط التعلم وقدراته ومستوى ذكائة. وهذه الأمور ليست من اختصاص قوى الأمن الداخلي، المولجة حاليًا الاشراف على الأحداث في السجون. وإنّ تأخر القضاء وتعثر الجسم القضائي بهذا الشكل الممنهج هو من أخطر الأمور التي أصابت مجتمعنا اللبناني خلال هاتين السنتين فعندما تغيب العدالة يسود الظلم .. يتعثر الحق..”، مضيفةً: “كيف يمكن أن تقوم ببرامج تأهيلية في السجون من دون أي أفق واضح ومن دون أي خطة أو خريطة طريق؟ هل يمكن أن نقوم بنزهة أو بتقديم الطعام لشخص ينزف مثلاً. إذن لا بد من ترتيب الأولويات، صحيح هناك دعم من منظمة الصحة العالمية وعدد من الأطباء المختصين والممرضين الذين يزورون السجن دوريًا ولكن الحاجة تفوق التقديمات”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى