أبرز الأخبار

التحقيقات الفرنسية والحقائق الصادمة: مصرف لبناني “خُلقت” لأجله الأموال

ألمدن

من السذاجة القول أنّ أحدًا ما في لبنان يملك اليوم تفاصيل التحقيق الفرنسي، في شبهات الاختلاس وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع، التي تحيط بحاكم مصرف لبنان وشقيقه وشركائه. فالسريّة التي تحيط بعمل القاضية الفرنسيّة أودي بوريسي، لا تترك المجال لهذا النوع من التسريبات غير المهنيّة.

ومع ذلك، يمكن القول أنّ طبيعة الاستدعاءات والاستنابات التي تجريها القاضية، بالإضافة إلى نوعيّة لوائح التهم التي تم توجيهها مؤخرًا إلى المصرفي مروان خير الدين، تدل على وجهة التحقيق ومآلاته. والأكيد حتّى اللحظة، حسب ما رشح عن تحرّكات القاضية، هو أن التحقيق الفرنسي يتوسّع حاليًا في ارتكابات المصرفيين اللبنانيين، الذين تعاونوا مع رياض ورجا سلامة في تهريب الأموال المختلسة من مصرف لبنان (راجع المدن).

التحقيقات تستهدف رئيس مجلس إدارة أكبر مصارف لبنان
أهم ما يستهدفه التحقيق اليوم، هو تبادل المصالح والمنافع بين الحاكم وهؤلاء المصرفيين، وهو ما مهّد بدوره لتعاون هؤلاء في عمليّات تبييض الأموال التي قام بها شقيق الحاكم رجا سلامة من خلال المصارف اللبنانيّة. وكما بات متداولًا، من المرتقب أن تستهدف لوائح الاتهام المقبلة مصرفيين إثنين، بتهم شبيهة لتلك التي تم توجيهها لمروان خير الدين.

أحد هؤلاء، هو “مصرفي عتيق”، يدير اليوم أحد أكبر المصارف اللبنانيّة، إن لم يكن أكبرها على الإطلاق. وحسب جميع المعطيات المتوفّرة حتّى الآن، يمثّل هذا المصرف وممارسته نموذجًا فاقعًا عن صرف النفوذ الذي مارسه الحاكم لصالح المصرفيين اللبنانيين، مقابل مساهمتهم في تسهيل اختلاساته وتبييض أمواله.. ومنحه عمولات تم تسديدها في الأسواق الأوروبيّة!

توجيه الاتهام لهذا المصرفي العتيق بالتحديد، سيمثّل منعطفًا لا يمكن التقليل من شأنه، وخصوصًا على مستوى مستقبل القطاع المصرفي كما نعرفه اليوم. أمّا الأهم، فهو أنّ طبيعة الاتهامات التي ستوجّه للرجل، ستعطي اللبنانيين فكرة عن الطريقة التي أدار من خلالها المصرفيون وحاكم مصرف لبنان القطاع خلال السنوات الأخيرة قبل الانهيارات، والتي أدّت إلى الكارثة التي ألمّت بالبلاد لاحقًا.

خلق الأموال لإنقاذ المصرف
ينقل العارفون بسيرة المصرفي العتيق أنّه بدأ مسيرته في المصرف نفسه منذ العام 1963، ما جعله إبنًا بارًّا للمؤسسة التي صنعته، ولاعبًا محنّكًا عارفًا بتفاصيل ودهاليز القطاع في لبنان. في العام 1986، تم تعيينه مديرًا عامًا في المصرف، قبل أن يدخل مجلس الإدارة بعد أربع سنوات ليصبح شريكًا في مركز القرار، ومساهمًا في وضع السياسات العامّة للمصرف. ثمّ توسّع دوره عام 2017، بتعيينه رئيسًا لمجلس الإدارة.

في بدايات العام 2016، لم يكن يدور ببال رياض سلامة أن يطلق هندسة ماليّة مجنونة كالتي قام بها لاحقًا. بدأت القصّة بكتلة من الخسائر التي ألمّت بهذا المصرف التجاري بالتحديد، في السوق التركيّة. في الحالات العاديّة، كان من المفترض أن يُلزم الحاكم ولجنة الرقابة على المصارف أصحاب المصرف بإعادة رسملته، وتعويض الخسائر. أو كان من المفترض إحالة المصرف إلى الهيئة المصرفيّة العليا، لوضع الخطط اللازمة لتصفية المصرف أو دمجه أو بيعه أو غيرها من الخيارات المحتملة.

ما جرى كان غريبًا عن أي عرف أو عمل مصرفي طبيعي. أطلق سلامة يومها هندسات ماليّة على قياس هذا المصرف بالتحديد. كانت عمليّات معقّدة، لكن خلاصتها كانت بسيطة: راكم الحاكم خسائر مؤجّلة على مصرف لبنان، وخلق المال بالليرة، وأجرى أكبر عمليّة نقل لأموال عموميّة لصالح مؤسسة خاصّة.. لإنقاذ المصرف التجاري الكبير.

لم يكن أحد يعرف في ذلك الوقت تداعيات هذا النوع من الألاعيب، باستثناء تقارير المؤسسات الدوليّة التي حذّرت من هذه الهندسات غير التقليديّة. إلا أنّنا بتنا اليوم نعرف جيدًا ماذا تعني عبارة “تراكم الخسائر الناتجة عن مرحلة الهندسات الماليّة”. في كل الحالات، وحسب بعض الشهادات التي تم تقديمها للقضاء الفرنسي، لقد “خلق مصرف لبنان الأموال لأجل هذا المصرف”.

بعد أشهر، رفع المصرفي العتيق الفوائد التي يدفعها للمودعين، لاستقطاب المزيد من الأموال وتوسيع نطاق الهندسة التي تجري مع مصرف لبنان. فاحت الرائحة، وبدا أن اللعبة بدأت تؤثّر على موازين القوى داخل القطاع، بعد انتقال الكثير من الودائع من مصارف أخرى إلى هذا المصرف. فاضطر حاكم مصرف لبنان لتوسيع نطاق الهندسات، لتشمل جميع المصارف اللبنانيّة، وإن بنطاق أضيق مما استفاد منه المصرف الذي خُلقت لأجله الأموال في البداية.

في الحصيلة، تمكّن المصرف التجاري من تحصيل أكثر من 1.6 مليار دولار من الأرباح الاستثنائيّة، جرّاء انخراطه في هندسات مصرف لبنان. وتمكّن المصرفي العتيق من إطفاء خسائر مصرفه، بفعل الهديّة التي قدّمها له مصرف لبنان.

الشراكة مع حاكم مصرف لبنان
أدرك المصرفي العتيق أنّ ثمّة ما يجب سداده لرياض سلامة مقابل الهدايا التي تلقّاها مصرفه في لبنان. هنا بالتحديد، تتقاطع القصّة مع كل ما يجري في التحقيقات الأوروبيّة، التي تستهدف البحث في مصدر ثروة الحاكم في أوروبا. في أواخر العام نفسه، كان المصرف يقوم بعمليّات استحواذ ملتسبة، سدّد بوجبها ثمن أسهم مملوكة من ندي سلامة، في إحدى الشركات الوهميّة التي استخدمها لإخفاء ثروة رياض سلامة في أوروبا.

في بادئ الأمر، جرى الاستحواذ على الأسهم من خلال إحدى الشركات المملوكة من المصرف، قبل أن يتم نقل الأسهم لملكيّة فرع المصرف في قبرص. ثم يكشف التدقيق عن علاقة المصرف برياض سلامة تفاصيل مثيرة أخرى، ومنها استحصال شركات سلامة على تقديمات نقديّة تحت ستار استثمارات من المصرف، واستحواذ المصرف على أسهم شركات وهميّة أخرى مرتبطة بالحاكم.

هنا، يصبح واضحًا كيف استحصل المصرفي العتيق لمصرفه على أكبر كميّة من قروض الـ9 مليار دولار في أواخر العام 2019، من مصرف لبنان، مقارنة بالقروض التي حصلت عليها المصارف اللبنانيّة الأخرى، والتي تم استخدامها لتهريب أموال مجموعة من المودعين النافذين للخارج بشكل استنسابي. مع الإشارة إلى أنّ هذا المصرف بالتحديد كان أحد المصارف التي تحججت بستار السريّة المصرفيّة، للحؤول دون التعاون مع طلبات القضاء اللبناني، وعدم تقديم الداتا المصرفيّة المرتبطة بهذه التحويلات. وكانت قيمة القروض التي حصل عليها هذا المصرف في تلك الفترة ناهزت 2.24 مليار دولار، من دون أن يتبيّن حتّى اللحظة كيفيّة استخدامها.

في خلاصة الأمر، من المفترض أن تُظهر لوائح الاتهام الفرنسيّة المرتقبة –وبشكل رسمي- كل الشبهات التي تحقق فيها القاضية الفرنسيّة. إلا كل ما سبق ذكره من تبادل للخدمات والمنافع بين هذا المصرف وحاكم مصرف لبنان، يؤكّد أن تورّط المصرف في تسهيل عمليّة اختلاس أموال مصرف لبنان، عبر شركة فوري، لم يكن إلًا جزءًا من علاقة الحاكم الملتبسة والشائكة بالمصارف اللبنانيّة. وهنا بالتحديد، يصبح الحديث عن صرف النفوذ والرشى وتبادل العطايا بين الحاكم والمصارف أوضح بكثير.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى