تغدو وطأة الأحداث مخيفة، لا في لحظة حصولها فحسب بل أكثر لدى تجاوز القدرة على احتواء فهمها والإحاطة بها بالكامل. فاضت في الأسبوع الفائت الممتد من الهجوم الإسرائيلي السيبراني اللامسبوق على آلاف عناصر “حزب الله” الثلاثاء والأربعاء، الى يوم الجمعة الانقضاضي على القيادة الميدانية لوحدة النخبة القتاليّة وإبادتها بكاملها، الى ليل الأحد الناري الذي أشعل بلدات وأودية الجنوب، كل إثباتات قلب إسرائيل لطاولة الحرب الخفيفة الى ما ينذر بأنها الحرب المطابقة تماماً لحرب غزة بنسختها اللبنانية. وتبعاً لذلك، لم يكن مبعث الدهشة أن “إسرائيل تفعلها” بعدما تبارى القاصي والداني في لبنان سحابة 11 شهراً في استبعاد إقدامها على فتح حرب شاملة ثانية، بل في دومينو الصدمات الدراماتيكية المتعاقبة التي تولدت عن سلسلة غير متخيّلة من الضربات البنيوية العميقة في البنية البشرية والقيادية لـ”حزب الله” بما وضعه للمرة الأولى منذ تأسيسه أمام خطر وجودي حقيقي.والحال أنه ما كان لهذه “النبذة” الخاطفة من ضرورة لولا السؤال الأشد خطورة، ولا نقول إلحاحاً: هل أجرى الحزب أم تراه في طور إجراء تقويم ومراجعة في حجم الزلزال الذي ضرب بنيته العسكرية والبشرية؟ أم أن مجرد إثارة هذا السؤال، من أي جهة أتى، سيدرجه الحزب في إطار تخويني نمطي معروف؟
من غير الضروري تكراراً أن يبرّر كل سؤال نقدي للحزب، فيما توجّه إسرائيل إليه الضربة تلو الضربة، بتأكيدات التضامن مع عائلات شهدائه وجرحاه وضحايا الوحشية الإسرائيلية التي انزلقت بالدولة العبرية الآن الى جنون وضع لبنان بأسره في حالة حرب معها بفعل رعونة مخيفة ولو تفوّقت بتسديد الضربات البنيوية لأعتى أعدائها إطلاقاً. ذلك أن المفارقة “المدهشة” التي ستبرز تباعاً، وكلما تعمق خطر الحرب المتسعة على لبنان، هي في أنها ستضع أضعف المخلوقات المعنية بهذه الحرب في أقوى موقع حيالها من زاوية الشرعية المحلية والدولية والقانون الدولي.
ففيما بدأت تتكثف التساؤلات أو الشكوك أو الانتقادات حيال معاندة أو مكابرة “حزب الله” في المضيّ بالتضحية بلبنان وبنفسه “على طريق القدس” وعدم فك ارتباطه بغزة، لن يمكن أيّ منقذ أو مسلك ينجي لبنان من جحيم الحرب المتدحرجة إلا أن يمر بالدولة والشرعية اللبنانية بمعناها الدستوري والمعنوي والقانوني وإن كانت أضعف خلق الله راهناً ولاحقاً وفي أيّ وقت. ثم إن انتظار “ميزان القوى” لإعادة تصويب الحرب الطالعة على أساس ردعي لإسرائيل، سيحتّم على الحزب الرد بلا مكابرة على السؤال الجوهري المطروح منذ اغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية بلوغاً الى حرب الانقضاض البنيوية التي تشنّها عليه إسرائيل: الى متى “تذخر” إيران، قدراتها الاستراتيجية لكي تصوّب ميزان القوى المختلّ بمستويات قياسية لا سابق لها لمصلحة إسرائيل الى حدود تنذر بحسم الحربين، في غزة ولبنان، لمصلحة نتنياهو؟ وما دامت إسرائيل لن تبقي خياراً لأي طرف إلا الاستدراج الى الحرب، فإلى متى الإنكار المخيف بادّعاء امتلاك خيارات مفتوحة بعد أمام مقاوميها غير الحرب؟
هي الآن ساعة الحقيقة الموجعة وحدها هي بأن لا شيء “قد” يوقف، والجزم غير مضمون، رعونة إسرائيل في الانزلاق الى تدمير لبنان، سوى تبديل راية “المقاوم”، بمعنى أن تعود الدولة اللبنانية وحدها وفقط في مواجهة إسرائيل بعد تسليمها الحصري لمقاليد الحلّ والربط والتفاوض والحرب معاً…