بأقلامهم

نصيحة هوكشتاين: دَعكم من الحقّ الإنساني وفكروا في “حقّ” الغاز والنفط

نصيحة هوكشتاين: دَعكم من الحقّ الإنساني وفكروا في “حقّ” الغاز والنف
غسان صليبي

هوكشتناين ليس آينشتاين وهو لم يخترع الذرّة عندما صرّح لقناة “الحرّة” انه خلال التفاوض “يجب التوقّف عن التفكير إذا كان هذا من حقّي، بل التساؤل ما هي التسوية، التي لن تسمح لي ربما بالحصول على كل ما أريد، بل على أكثر مما لديّ الآن، والآن ليس للبنان شيء”.

هوكشتاين يعبِّر، لمناسبة الكلام عن المفاوضات بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود المائيّة، عن جوهر المنطق الرأسمالي الذي تجسّده بسلوكها الولايات المتّحدة الأميركيّة. في النظام الرأسمالي، القيمة العليا هي للرأسمال وللربح، وعلى الجماعات البشريّة ان تنتظم بما يخدم تطوّر هذا النظام. العمل الإنساني هو في خدمة الرأسمال، وقيمته يحدّدها هذا الأخير بما يتناسب مع أرباحه. على الحقوق الإنسانيّة ان تتأقّلم مع هذا المعطى الأساسي، فقيمة السلعة هي أعلى شأنًا من قيمة الإنسان.

تبدع لغتنا المحكيّة حين تشير الى علاقة التبعيّة بين حقوق الإنسان والرأسمال. فتقول “حقّ” السلعة للدلالة على سعرها، مستخدمة كلمة مستقاة من قاموس القانون والحقوق الإنسانيّة، للتعبير عن القيمة النقديّة للسلع. لقد جرى الإستيلاء على كلمة “حقّ” وتحوير معناها بما يعطي السلعة شخصيّة معنويّة وقدرة على ان يكون لها “حقّ”، مثلها مثل الشخصيّة الإنسانيّة التي تتمتّع بحقوق.

هوكشتاين، وهو ربيب الرأسماليّة وأحد مهندسي توسّعها الإمبريالي الإقتصادي كخبير في شؤون النفط والغاز، يتبنّى في “منطقه” أعلاه منطق الرأسماليّة الذي يقتضي عدم الإكتراث بالحقوق الانسانية بل بأرباح “التسوية” بين الأفراد والجماعات. لكن هوكشتاين يضيف عنصرًا مهمًّا الى “منطقه” وهو أن عليك ان تقتنع به، لأنه في الاصل “ليس لديك شيء”، وكل ما ستكسبه هو بالنسبة إليك ربح صافٍ.

بمعنى آخر، عليك ان تتنازل عن حقوقك لأنك ضعيف ولا حيلة لك، مثلك مثل العامل في النظام الرأسمالي، ومثل الدول الضعيفة والفقيرة في علاقتها بالقوى الإمبرياليّة، ومثل لبنان في مواجهة إسرائيل. لسنا هنا في علاقة تفاوض بل في حالة إذعان طرف لطرف آخر.

يذكِّرني “منطق” هوكشتاين بـ”صفقة القرن” وبالخلفية الفكريّة التي تقف وراءها. لم يعد أحد يتكلّم عن “صفقة القرن” كحلّ طرحه ترامب للقضيّة الفلسطينيّة وروّج له صهره. لا يعني ذلك ان الصفقة جرى التخلّي عنها، بل على الأصح القول انه جرى التوقّف عن الكلام عنها وترك الإسرائيليين يطبّقونها بالممارسة فيما العالم أجمع يتفرّج.

صفقة القرن لا تنظر الى الشعب الفلسطيني كشعب له تاريخ وهويّة وطنيّة، ولا تعترف له بدولة مستقلّة وبعاصمة وبقوى أمنيّة ذاتيّة. ولا بأس إن بقيت “المقاومة” في غزّة و”السلطة” في الضفة. فكل ما يريده هذا الشعب، بالنسبة إلى ذهنية “صفقة القرن”، هو مشاريع إقتصاديّة وفرص عمل تؤمّن له إحتياجاته الأساسيّة. ومهما كان ما سيجنيه من أموال من هذه المشاريع الإقتصاديّة، فسيكون “ربحًا” خالصا له طالما انه، كما يقول هوكشتاين عن لبنان، ليس لديه شيء. بالنسبة لـ”صفقة القرن” الفلسطيني كائن “إقتصادي” وليس شخصية انسانية بأبعادها المختلفة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والروحية.

أميل الى الإعتقاد ان هوكشتاين ينظر الى الشعب اللبناني كما تنظر “صفقة القرن” الى الشعب الفلسطيني. وربما ان نظرته هذه هي في العمق نظرة المجتمع الدولي ككل ومفاوضيه الإقليميين. فلا حاجة للّبنانيين بدولة وبجيش يحمي حدودها. ولا بأس إن بقيت هذه الدولة مترهّلة والى جانبها “مقاومة” تقضم صلاحياتها وتحول دون تحوّلها الى دولة مستقلة. حتى ان لا حاجة للّبنانيين بعاصمتهم بيروت التي دمّرتها إسرائيل على ما يبدو، في ظل صمت دولي وإقليمي ومحلي. مثلهم مثل الفلسطينيين، كل ما يحتاجه اللبنانيون هو ضخ بعض الأموال وتنفيذ بعض المشاريع الإقتصاديّة التي تؤمّن “الإغاثة المستدامة” بديلاً من “التنمية المستدامة”.

أما الثورة المائيّة فلم يحن وقتها بعد، كما تدل لقاءات هوكشتاين وصفقاته مع السلطة اللبنانية. وعندما سيحين هذا الوقت وتُرَسَّم الحدود بموافقة “حزب الله” وبإشرافه من بعد، ربما تحوّل البلد الى إقتصاد ريعي على شاكلة الأنظمة الخليجيّة، بما يضمن استمرار نفوذ “حزب الله” وحلفائه، في نظام سياسي، من المفترض ان يسهّل الإقتصاد الريعي ترسيخ أسسه الإستبداديّة، كما في البلدان الخليجيّة من إيران الى السعودية.

لا اعتقد بأن “حزب الله” والسلطة الحاليّة يرفضان تطبيق ذهنية “صفقة القرن”، فهذا ما يضمن إستمراريتهما دون تحدّيات تُذكر لنفوذهما. وهما بالتأكيد سيمانعان في المستقبل كما منعا في السابق، قيام دولة مستقلة، عاصمتها بيروت، تعمل لصالح شعبها وتطلق مسارا تنمويا يخرج لبنان من الانهيار والانحطاط.

نصيحة هوكشتاين للبنانيين، وللمفارقة، أعادتني بالذاكرة الى نداء كارل ماركس لعمال العالم في نهاية “البيان الشيوعي”. فقبل ان يدعو عمال العالم لأن يتحدوا، أكد ماركس انه طالما هم لا يملكون شيئاً، ليس هناك ما يفقدونه “سوى أغلالهم” في حال انخرطوا في الثورة الشيوعية، وفي المقابل “امامهم عالم يكسبونه”. هوكشتاين دعا اللبنانيين الذين لا يملكون شيئا للقبول بما يُقدم لهم من فتات، فيما دعا ماركس العمال الذين لا يملكون شيئا أيضا، الى رفض فتات الرأسماليين والثورة عليهم.

في حينه، لم يفطن ماركس الى ان العمال يتمسكون بأغلالهم لأسباب سيكولوجية وإجتماعية وثقافية، وأن الاقتصاد لا يمكنه ان يحدد وحده سلوك البشر. تَطلّب تغيير الواقع العمالي نضالات طويلة للتخلص من بعض هذه الأغلال، أدت الى تحولات لصالحهم في النظام الرأسمالي لكن دون أن يؤدي ذلك الى الثورة عليه في البلدان التي توقّع فيها ماركس الثورة.

لا شك أن هوكشتاين على دراية بـ”أغلال” اللبنانيين، الاقتصادية والمذهبية والنفسية، وبتمسكهم بهذه الأغلال التي اوصلتهم الى الانهيار، وقد شهد أخيرا إنتخابهم مجددا لمعظم جلاديهم. لكنه، كماركس، ولو من موقع معاكس، يُسقِطُ تمنياته على الواقع. فمن فرط ما نظّر لـ”حق” السلع، لم يعد يدرك عمق تجذ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى