أخبار محلية

“الجنة المصرفية”سقطت ومعها الحسابات والخزائن السرية

أساس ميديا
ينشر “أساس” الحلقة الثانية والأخيرة من التعديلات على قانون رفع السرية المصرفية، والتي تشكل مثار تجاذبات سياسية بين من يرى فيها إستخداماً سياسياً هدفه محاسبة حقبة إقرار الطائف حتى اليوم وما سادها من توازنات داخلية ، وبين من يرى أن مشروع القانون يُلبي “الحاجات” اللبنانية للإصلاح المشروط من المجتمع الدولي والجهات المانحة .

يوم الخميس الفائت وقّع رئيس الجمهورية ميشال عون قانون تعديل بعض موادّ القانون الصادر بتاريخ 3/9/1956 المتعلق بسرّيّة المصارف بعد “تريّث” لبضعة أيام خضع خلالها لـ “تدقيق” من جانب الفريق القانوني في بعبدا، خصوصاً أنّ تعديل قانون رفع السرّيّة المصرفية استتبع تعديل خمسة قوانين معه.

أهميّة القانون ليست محصورة بمضمونه وتأسيسه لـ “حقبة محاسبة” جديدة تتوافق مع المتطلّبات الدولية وتضع حدّاً لمسار امتدّ لــ 66 عاماً تحوّل خلاله لبنان إلى “جنّة مصرفية مقفلة” شكلت في جزء منها ملجأً لفاسدين ومبيضي أموال، إنّما لأنّ القانون قد يكون الأول والأخير في سلسلة القوانين الإصلاحية المطلوبة بإلحاح من صندوق النقد الدولي، والتي قد يقرّها البرلمان اللبناني قبل نهاية عهد الرئيس ميشال عون.

حتى الآن، فإن القوانين الأخرى المطلوبة، أي الموازنة العامّة لعام 2022 وقانون إعادة هيكلة المصارف وقانون كابيتال كونترول، هي “رزمة” عالقة إن في الحكومة أو في مجلس النواب أو لدى وزير المال. وتتقاطع عدّة مصادر نيابية عند “عدم الحسم بإمكان إقرارها قبل نهاية الولاية الرئاسية”.

إذاً، بإقرار تعديل قانون السرّيّة المصرفية نُفّذ أحد شروط صندوق النقد الدولي (الـ IMF ) الأساسية. بَلَعَ المعارضون ألسنتهم وأذعنوا للأمر الواقع. أخذت لجنة المال والموازنة برئاسة النائب إبراهيم كنعان بجزءٍ كبير من مشروع الحكومة، وأخذت الهيئة العامّة بجزءٍ كبير جدّاً أيضاً من تعديلات لجنة المال والموازنة، فيما لم تغيّر الإضافات في “جوهر” القانون وأهدافه.

عمليّاً، جرت إعادة صياغة للقانون ضمن إطار تشريعي قابل للتطبيق (باستناده إلى قوانين واضحة) وغير فضفاض. هذا طبعاً إذا كانت هناك إرادة سياسية-قضائية للالتزام بمندرجات القانون.

لبنان لم يعد سويسرا الشرق والحصانات سقطت

ما حدث شكّل قفزة عملاقة في مسار محاسبة الفاسدين بعد نزع “لوغو” سويسرا الشرق عن صدر لبنان الذي أوهم العالم، بفضل “عبقرية” “حكايا” حاكم المصرف المركزي رياض سلامة الملاحَق قضائياً، بصلابة القطاعه المصرفي الذي عاد وانهار مؤسِّساً لحقبة نوعيّة في التعاملات المصرفية: لا حصانة بعد اليوم للمودعين “المشتبه بأمرهم” مهما كبر حجمهم ونفوذهم. هكذا يُفترض… والعبرة في التنفيذ.

أكثر من ذلك، وما لا يعرفه كثر هو أنّ يحظّر القانون المعدّل يحظّر فتح حسابات ودائع مرقّمة وتأجير خزائن حديدية لزبائن لا يعرف أصحابها غير مديري المصرف أو وكلائهم، وذلك بطلب وإلحاح صندوق النقد الدولي.

إذاً أُلغيت الخزائن والحسابات المرقّمة، إذ نصّ القانون الجديد على “تحويل حسابات الزبائن المرقّمة والخزائن الحديدية المؤجّرة إلى حسابات عاديّة وخزائن تطبّق عليها جميع متطلّبات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وقوانينها ومراسيمها التطبيقية وذلك في مهلة أقصاها ستّة أشهر تلي دخول هذا القانون حيّز التنفيذ”.

مصادر في لجنة المال والموازنة لـ “أساس”: “تصوير الأمر وكأنّ الصلاحية لا تزال بيد المدّعي العامّ المالي حصراً هي كذبة كبيرة. لقد تمّ التوسّع في بند الجهات المخوّلة طلب رفع السرّيّة بشكل لا لبس فيه”

جوهر التعديلات

طالت التعديلات على قانون السرّيّة المصرفية الموادّ 1 و2 و7 و8 من قانون 1956. والتعديلات الأساسية هي:

1- تعديل المادّة السابعة من خلال سحب الصلاحيّات الحصرية المتعلّقة بطلب رفع السرّيّة المصرفية من يد هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان (بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب)، بحيث باتت أيضاً بتصرّف القضاء المختصّ في دعاوى التحقيق (أي كلّ قضاة التحقيق) في جرائم الفساد والجرائم المنصوص عليها في المادة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، والجرائم المحدّدة في القانون رقم 44 المقرّ في 24 تشرين الثاني 2015 وتعديلاته (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب)، ودعاوى الإثراء غير المشروع (أُضيفت من قبل لجنة المال والموازنة)، وبتصرّف الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وقد عزّزت لجنة المال هذه الصلاحيّة من خلال إسنادها إلى القانون رقم 175 تاريخ 8 أيار 2020 (قانون مكافحة الفساد في القطاع العامّ وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد).

ويحقّ للإدارة الضريبية طلب رفع السرّيّة بهدف مكافحة التهرّب الضريبي وفقاً لأحكام القانون رقم 44 تاريخ 11 تشرين الثاني 2008 وتعديلاته (قانون الإجراءات الضريبية).

المزايدات والكذبة الكبيرة

يُذكر أنّ النصّ الوارد من لجنة المال كان يتضمّن عبارة الطلب الوارد من “القضاء المختصّ في دعاوى التحقيق في جرائم الفساد والجرائم المالية الأخرى” ( وهي فقرة فضفاضة في تعداد الجرائم ، الأمر الذي اعترض عليه النائبان عن حركة أمل أشرف بيضون وعن القوات جورج عدوان). وفي الهيئة العامّة اعتُمد نصّ و”الجرائم المنصوص عنها في المادة 17 من قانون أصول المحاكمات الجزائية”.

تؤكّد المصادر أنّ “الارتكاز على هذه المادة يعني تعداد الجرائم من دون إعطاء صلاحية للمدّعي العامّ المالي. فهذه هي المادة الوحيدة في قانون أصول المحاكمات الجزائية التي يَرِد فيها تعداد للجرائم المالية. وإذا بقيت هذه المادة من دون إسنادها إلى نصّ فلن تطبّق وستفتح مجالاً لاستنسابية القاضي”.

من ناحية أخرى، أشار مشروع الحكومة إلى صلاحيّة طلب رفع السرّيّة من قبل لجنة الرقابة على المصارف، لكنّ هذا الأمر لم يمرّ في لجنة المال والهيئة العامة لأنّه يرتبط بقانون إعادة هيكلة المصارف الذي لم يُقرّ بعد. كما تمّ إسقاط الصلاحية المعطاة للضابطة العدلية لأنّ ذلك يعني منح صلاحية طلب رفع السرّيّة المصرفية للمخافر، وهذا أمر، وفق أحد النواب، غير موجود في أيّ دولة في العالم. بدت الحكومة عمليّاً في مشروعها المقترَح كمن “يُزايد” لا أكثر.

للمرّة الأولى في تاريخ لبنان فُتح المجال قضائياً لإلقاء الحجز على الأموال بقرار صادر عن القضاء المختصّ، وفق نصّ المادة 7.

2- تعديل المادة 8: لجهة تشديد العقوبات والتمييز بين إفشاء المعلومات والامتناع عن تقديمها وإقرار عقوبة الحبس وصولاً إلى شطب المصرف. كانت العقوبة في السابق تراوح بين 50 إلى 500 مليون ل.ل، وهو ما يفتح مجال الاستنساب واسعاً أمام القاضي.

في القانون المعدّل كلّ من أفشى أو حاول إفشاء معلومات محميّة بالسرّيّة المصرفية يُعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر حتى سنة، وبغرامة من 150 مليون لغاية 300 مليون، وتُضاعف الغرامة في حال تكرار المخالفة أو التمادي فيها.

وفي حال الامتناع عن تقديم المعلومات يخضع المخالف للعقوبة المنصوص عليها في المادة الثالثة من القانون رقم 44 وتعديلاته (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب). وتُشدّد العقوبة، كما تقضي أحكام المادة 257 من قانون العقوبات، في حال عدم الاستجابة لأيّ من هذه الطلبات. ولا تتحرّك دعوى الحقّ العام إلا بناءً على شكوى المتضرّر أو الجهات المختصّة بطلب المعلومات عن الحسابات المصرفية.

3- لناحية المفعول الرجعيّ للقانون الذي أُثير الغبار حوله يؤكّد مصدر نيابي في لجنة المال أنّ “القانون شموليّ ويتضمّن تطبيق المفعول الرجعي حين أُعطي القضاء المختصّ (في المادة السابعة) صلاحية الاستناد إلى دعاوى الإثراء غير المشروع التي تنصّ على المفعول الرجعي، وهو الأمر الذي لم يكن وارداً في مشروع الحكومة. كما أنّ القوانين المرتبطة بهيئة التحقيق الخاصة (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب) والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والإدارة الضريبية تتضمّن مفعولاً رجعياً في الملاحقة”.

يقول مرجع قانوني لـ “أساس”: “القاعدة الدستورية في القوانين الماليّة عدم وجود مفعول رجعي وإلا سيكون القانون معرّضاً للإبطال، لكن استثنائياً في قضايا الفساد وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب والتهرّب الضريبي فُتح المجال تشريعياً للمفعول الرجعي. وتمّ في مجلس النواب إسناد قانون تعديل السرّيّة المصرفية إليها للاستفادة من المفعول الرجعي. وهذا أمرُ بالغ الأهمية”.

“سيستم” عفن!

مع ذلك، وعلى الرغم من كلّ التعديلات تبقى النقزة قائمة ومشروعة بوجود “سيتسم” عفن لا يزال قادراً على التحكّم بكلّ مفاصل الدولة. فماذا يعني إعطاء صلاحية لقاضٍ من دون إقرار قانون السلطة القضائية وبوجود نماذج من القضاة تتماهى بالكامل مع أهل الفساد؟ وما الضمانات لتطبيق حرفيّ للقانون في ظلّ سيطرة المحميّات السياسية التي يصعب تصديق إقرارها لقوانين تضعها في قفص الملاحقة والمحاسبة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى