أبرز الأخبار

البحر الأبيض المتوسط جبهة الحرب القادمة

أساس ميديا

من الهجرة إلى الطاقة والأمن الغذائي، برز البحر الأبيض المتوسط كجبهة مهملة في حرب روسيا مع الغرب. كما يوحي اسمه، البحر الأبيض المتوسط هو بحر يقع بين الأراضي. يربط بين أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، في السراء والضراء، وينقل الوقود والحبوب كما ينقل اللاجئين من شاطئ إلى آخر. على هذا النحو، يمكن أن يكون بمثابة مصدر استقرار لأوروبا أو مصدر اضطراب للاعبين الدوليين مثل روسيا التي تسعى إلى تهديد هذا الاستقرار.

ليست روسيا القوة الوحيدة التي تسعى إلى تحدي النظام الأمني المتداعي في البحر الأبيض المتوسط. تعمل الصين وإيران أيضاً على كسب موطئ قدم في منطقة يزداد التنازع عليها، ولا تزال مركزية في الجغرافيا السياسية في النصف الشرقي من الكرة الأرضية. كانت الولايات المتحدة حاضرة في البحر الأبيض المتوسط منذ أوائل القرن التاسع عشر، وإذا كانت تريد الابقاء على وجودها هناك كقوة فاعلة، فيجب عليها أن تطور استراتيجية متماسكة تعطي الأولوية للاستخدام الحر للبحار بدلاً من التنَازع حول ملكيتها. سيتطلب ذلك بذل جهود لتعزيز الديمقراطية في جميع أنحاء المنطقة، فضلاً عن توطيد التحالفات القديمة والجديدة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط. من خلال ذلك فقط، يمكن لواشنطن مواجهة محاولات التنازع الاقليمي على مياهه واضعاف النفوذ الجغرافي الاقتصادي الصيني المتزايد على موانئه.

وسط ثلاث أزمات

اليوم، يقف البحر الأبيض المتوسط على مفترق طرق لأزمات متعددة هندستها روسيا كجزءٍ من جهودها لإضعاف عزيمة أوروبا. خذ أزمة الطاقة على سبيل المثال: تحتاج أوروبا الى ان تجد بسرعة مصادر جديدة للطاقة بينما العديد من تلك المصادر المتاحة بسهولة تقع داخل أو خارج حوض البحر الأبيض المتوسط. تشكل الهيدروكربونات الجزائرية والليبية حلولاً واضحة، وكذلك الغاز الطبيعي المسال الذي يمكن استيراده من قطر – عبر البحر الأبيض المتوسط.

كان يُنظر إلى البحر الأبيض المتوسط في يوم من الأيام على أنه أوروبا الوسطى التالية، مكان يتجذر فيه الازدهار والديمقراطية ويتوسعان بسرعة

على المدى الطويل، يعمل اللاعبون بشكل جديّ وفعال على سد الفجوة التي خلّفها الغياب المتوقع للغاز الروسي من خلال تسريع استغلال احتياطيات الغاز التي تم اكتشافها مؤخراً قبالة سواحل مصر وإسرائيل وقبرص. هذه الاحتياطيات التي كانت قد أدت الى تأجيج التوترات بين اليونان وتركيا، الحليفتين الناتو، حتى في وقت اخفاض اسعار النفط والغاز، يتوقع الجميع ان تتفاقم اليوم مع ارتفاع الأسعار وعدم معالجة مشاكل الملكية والنقل ما سيؤدي الى تغذية الانقسامات داخل التحالف. ولا شك في ان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما وصف حلف الناتو بأنه “ميت دماغياً”، كان يشير بشكل أساسي إلى حدة التوتر بين فرنسا وتركيا حول شرق البحر المتوسط، فضلاً عن السلبية الملموسة للحلفاء الغربيين الآخرين.

في ما يتعلق الأمر بأزمة الأمن الغذائي، يشكل انخفاض الإنتاج والتصدير من أوكرانيا تحدياً جدياً للجهات المصدرة من حيث قدرتها على تأمين الغذاء من أوروبا الى اكبر مستوردي الحبوب الرئيسيين في العالم في إفريقيا والشرق الأوسط. من أجل القيام بذلك، لا توجد طريقة عملياً لتجنب البحر الأبيض المتوسط، سواء بالنسبة لنقل الحبوب من البحر الأسود أو من المصدرين الغربيين الرئيسيين مثل فرنسا وإسبانيا. وإذا لم يتمكن شمال البحر الأبيض المتوسط من تلبية احتياجات الحبوب في الشواطئ الجنوبية والشرقية منه، فإن هذا من شأنه أن يحكم على سكان هذه الشواطىء بنقص الغذاء وتفاقم التضخم، مما قد يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي وأزمة هجرة جديدة. وكما حدث في عام 2015، فإن مثل هذا الوضع سيتيح الفرصة مجدداً لروسيا لتأجيج التوترات ليس فقط بين أوروبا والشرق الأوسط، ولكن أيضاً بين حلفاء الناتو، مع اتهام الولايات المتحدة بإثارة الاضطرابات في المنطقة وترك الأوروبيين يدفعون الثمن. وقد أثبتت هذه الاستراتيجية فعاليتها في أماكن مثل فرنسا وإيطاليا في عام 2015، وقد تزيد من إضعاف تصميم الحلفاء.

آمال محبطة

كان يُنظر إلى البحر الأبيض المتوسط في يوم من الأيام على أنه أوروبا الوسطى التالية، مكان يتجذر فيه الازدهار والديمقراطية ويتوسعان بسرعة. وبدلاً من ذلك ،فإنه يواجه الآن الفقر والفوضى على شواطئه. والأسوأ من ذلك، إن عدم الاستقرار الذي كان يمثل في الماضي مشكلة في المناطق النائية بشكل أساسي، بات اليوم ينتشر في البحر. في الواقع، أصبح البحر الأبيض المتوسط منطقة مزدحمة للغاية، مع تدفق لاعبين جدد يقدرون أهميته الاستراتيجية حيث انه، على الرغم من أنه يغطي أقل من 1 في المائة من سطح المحيط على الأرض، إلا أنه يحمل 20 في المائة من حركة النقل البحري في العالم. بالاضافة الى قوى المنطقة مثل اليونان وإيطاليا وفرنسا وتركيا – التي تسارع الى التسلح مجددا – كانت الحرب في سوريا ذريعة لإيران لتدعيم ممرها البري إلى البحر الأبيض المتوسط ، كما سمحت لروسيا باستعادة موطئ قدم لها من خلال إعادة الاستثمار في القاعدة البحرية التي تعود إلى الحقبة السوفيتية في طرطوس. من هناك، تمكنت روسيا من تعزيز وجودها في المنطقة، حيث تجري الآن عمليات بحرية مشتركة مع الصين التي تتطلع بدورها أيضاً الى إيجاد مرساة لها في البحر الأبيض المتوسط من خلال الاستحواذ على موانئ مدنية.

فالبحر الأبيض المتوسط لا يزال نقطة عبور مهمة للتجارة بين أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا – والقادة الصينيون يدركون ذلك تماماً. وجدت بكين بالفعل نقطة دخول مدنية على الشاطئ الشمالي عندما اشترت شركتها المملوكة للدولة،COSCO ، ميناء بيرايوس في عام 2016. وفي الآونة الأخيرة، وقعّت الصين مذكرة تفاهم مع الجزائر لبناء وتطوير ميناء الحمدانية، الذي من المتوقع أن يصبح ثاني أكبر ميناء للمياه العميقة في إفريقيا، حيث بدأ البناء فيه عام 2021. وتتطلع بكين الآن إلى القيام بعمليات استحواذ مماثلة في شمال غرب البحر الأبيض المتوسط، بعد أن استهدفت مؤخراً موانئ جنوة وتريستي، من بين موانىء أخرى. تستحوذ الصين أيضًا على أصول في مناطق مثل تارانتو في جنوب إيطاليا، والتي رغم قلة أهميتها التجارية، تقع استراتيجياً عند تقاطع غرب وشرق البحر الأبيض المتوسط وتستضيف قاعدة بحرية رئيسية لحلف شمال الاطلسي.

لا ينبغي أن ينخدع أحدٌ بأن مشاريع الصين المتوسطية هي مشاريع مدنية بالدرجة الأولى. تدرك الصين جيداً قيمة السيطرة على نقاط الإختناق البحرية. وعلى المدى الطويل، قد تسعى بكين الى تطوير ميناء مزدوج الاستخدام في مكان ما في المنطقة الأوروبية المتوسطية، إن لم يكن قاعدة بحرية عسكرية خالصة. افتتحت الصين مؤخرًا أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي، وهذا يضعها عند مدخل البحر الأحمر الذي يُعد، عبر قناة السويس، نقطة دخول رئيسية إلى البحر الأبيض المتوسط.

أميركا والبحر الأبيض المتوسط

منذ وقت ليس ببعيد، كان يُنظر إلى البحر الأبيض المتوسط على أنه أميركي، أو غربي على الأقل. اليوم، يبدو أنه محل خلاف على نحو متزايد. ولا يمكن للولايات المتحدة الاميركية، بصفتها دولة بحرية ترتكز قيادتها على تأمين حرية الملاحة في البحار، تحمّل خسارة البحر الأبيض المتوسط، أو السماح له بأن يصبح بحراً إقليمياً ومتنازعاً عليه علناً. وفي حين أن استمرار وجود الأسطول السادس يوفر بالتأكيد ضمانات لاستمرار التفوق العسكري الأميركي، فإن الدروس المستفادة من الحربين في العراق وأفغانستان تقول أنه لا يمكن التعامل مع جميع القضايا الجيوسياسية بطريقة عسكرية بحتة.

في المقابل، تستخدم الصين الفرص الاقتصادية بدلاً من القوة الصلبة لكسب موطئ قدم في الموانئ الرئيسية، مفضلةً الخنق المالي على القوة العسكرية لزيادة نفوذها. وعلى الرغم من أن تركيا عضو في الناتو، فقد تبنت أيضاً دوراً تخريبياً من خلال تحدي النظام الحالي في البحر. واثارت جهودها لبناء “وطن أزرق” يربط تركيا بساحل شمال إفريقيا الغني بالموارد، الخلاف مع كل من قبرص، اليونان وفرنسا. وعلى الرغم من أن هذا النزاع في شرق البحر الأبيض المتوسط هو الأكثر إثارة للقلق، إلا أن هناك أيضاً توترات متزايدة بين حلفاء الولايات المتحدة الآخرين في أقصى الغرب، حيث يتصادم المغرب وإسبانيا ليس فقط حول قضية الهجرة، ولكن أيضاً بشأن أراضي سبتة ومليلية الإسبانية.

لضمان الأمن في البحر الأبيض المتوسط، سيتعين على الولايات المتحدة الإعتماد على استمرار الوجود العسكري، بل وحتى تعزيزه، في المنطقة

التحديات الأميركية في المتوسط

ومع استمرار تصاعد التوترات وتراكمها، غالباً ما يُطلب من الولايات المتحدة الإنحياز إلى طرفٍ دون آخر، وقد تضطر بالفعل إلى ذلك. هنا، لحلف الاطلسي دور أساسي، لا سيما بين اليونان وتركيا. لكن هناك خيارات أخرى أيضاً: إذ يمكن للتمديد الفعلي لإتفاقات إبراهام للمغرب التي عقدت في أواخر عام 2020 أن يفتح إمكانيات جديدة للتعاون، ويمكن لواشنطن أيضاً الاعتماد على علاقات ثنائية قوية مع دول مثل مصر أو الأردن لتعزيز السلام والاستقرار.

وقد يتطلب ذلك ترك تلك الدول حرة نسبياً في إدارة مناطقها النائية. هذا ثمن يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة لدفعه مقابل فك ارتباطها بالشرق الأوسط. يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة لوضع آليات محدّدة مثل المنتديات المخصصة على مستوى المنطقة وإحياء الحوار بين الناتو والبحر الأبيض المتوسط لإقناع شركائها بدراسة القضايا الأمنية الأوسع نطاقاً، بدلاً من النزاعات المحلية أو الإقليمية. يجب على واشنطن أيضاً وضع قواعد أساسية واضحة ومجموعة شاملة من الخيارات للرد على المخالفين عند الضرورة. يجب أن يشمل ذلك شروطاً وقيوداً على مبيعات أسلحة متطورة معينة مثل F-35 بالإضافة إلى أدوات اقتصادية جغرافية أخرى ، بما في ذلك توجيهات استثمارية أوضح للشركات الأميركية بشأن مشاريع البنية التحتية والموانئ في البلدان الحساسة.

في منطقة يمكن أن تتحول فيها الأحداث بسرعة، على أميركا أن تظهر قدرتها على التكيّف مع الظروف المتغيرة. حتى وإن تم كسر التحالفات من قبل الشركاء، فيمكن للولايات المتحدة دائماً التصرف بشكل أحادي الجانب. وهذا يتطلب استراتيجية واضحة ومتماسكة تركز على حرية البحار.

استراتيجية متوسطية

لضمان الأمن في البحر الأبيض المتوسط، سيتعين على الولايات المتحدة الإعتماد على استمرار الوجود العسكري، بل وحتى تعزيزه، في المنطقة. لكن يجب أن تتطلع جهودها الدبلوماسية أيضاً إلى التهديدات طويلة المدى. لا يمثل أي من اللاعبين الأجانب تحدياً أكبر من الصين. يحتاج الدبلوماسيون الأميركيون إلى أن يكونوا قادرين على تكثيف دبلوماسيتهم العامة لفضح التكلفة الحقيقية لـ “استثمار” الصين في بلد ما، خاصةً إذا بدا أنه لا يخضع لأي قيود.

الحفاظ على البحر حراً

لطالما كان البحر الأبيض المتوسط منطقةً معقدة، يصعب وضعها في صندوق واحد. لقد ركزت استراتيجيات الولايات المتحدة المتوسطية غالباً على العمليات العسكرية، مع تقسيم العناصر السياسية والاقتصادية بيروقراطياً بين أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. مثل هذا التقسيم لا يمكن أن يدوم. مع تصاعد الاضطراب في البحر الأبيض المتوسط.

على أميركا أن تتبنى استراتيجية متوسطية محدّدة تجمع بين القوة العسكرية والجيو-اقتصادية والسياسية للحفاظ على حرية الملاحة والاستقرار. وينبغي لهذه الاستراتيجية أن تكمل الاستراتيجية التي طورتها أميركا لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. بعد انسحابها العسكري من الشرق الأوسط، لن تحتاج واشنطن إلى الاختيار بين أن تصبح عديمة الفائدة لا صلة لها بالمنطقة أو أن تتورط في صراعات الحلفاء. بدلاً من ذلك، يمكن لاستراتيجية متماسكة أن تمكن الولايات المتحدة من لعب دور حاسم في مستقبل المنطقة.

– نشر المقال في 21 تشرين الاول/اوكتوبر على موقع warontherocks وهو منصة للتحليل والنقاش حول الإستراتيجية والدفاع والشؤون الخارجية. وكتبه تيبو موزرغس مدير برنامج أوروبا والأورومتوسط في المعهد الجمهوري الدولي وهو منظمة اسستها الحكومة الاميركية عام 1983 تتولى ادارة برامج سياسات دولية.

هوامش:

*اوكوس AUkUS اتفاقية امنية ثلاثية بين الولايات المتحدة الاميركية والمملكة المتحدة واستراليا لتطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية، إضافة إلى تعزيز الوجود العسكري الغربي في منطقة المحيط الهادئ.

رسمياً الحوار الأمني الرباعي، هو مجموعة من أربع دول: الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان. بدأ التعاون البحري فيما بينها بعد كارثة تسونامي في المحيط الهندي عام 2004. ولكنها اليوم تعمل على أجندة أوسع بكثير تشمل معالجة القضايا الأمنية والاقتصادية والصحية. الرباعية ليست تحالفاً رسمياً. ومع ذلك ، فقد كثفت المجموعة علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع تصاعد التوترات مع الصين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى